دأبت الإدارة العسكرية والأمنية الأمريكيتان على تبني مسلكية خاصة في استباق ردات فعل أعدائها، مبتدئة بـ " لعبة الحروب " حيث تضع فرقا زرقاء يمثلونها وفرقا حمراء ( اللون الأحمر اعتمد في الحرب الباردة لتوصيف الخطر الأحمر الشيوعي واستمر بعد ذلك ) يمثلون أعداءها وفرقا خضراء يمثلون الجهات الحيادية في الحروب، وتدرس التكتيكات القتالية الملائمة في المواجهة العسكرية، أخذتها عن التقانة العسكرية البروسية في القرن التاسع عشر، والتي منحت الجيش قدرة على المناورة الميدانية أكثر احترافية من خصومها.
اكتشفت الولايات المتحدة أن التعامل بهكذا مسلكية وإن كان لا يخلو من أهمية إلا أنه لا يساعدها في استباق ردات فعل أعدائها، فقررت أن تمنحهم حق الكلام، فأنشأت " فرقا حمراء " في قلب كل إدارة على حدة، تتكون من باحثين ومحللين أكفاء في استنطاق المعلومة، يقوم دورهم على لعب دور العدو والإدلاء بحججه وبعدها ينتقلون إلى مرحلة وضع الخطوات التي من المفترض أن يتبناها على ضوء الاستراتيجيات التي تسلكها الولايات المتحدة، وعليه يمكنها وعلى ضوء كل هذه المعطيات أن تمارس استراتيجية أكثر فعالية وأبعد نجاعة عندما ترسم خططها وتطبقها على الأرض.
إلا أن حزب الله ومنذ 2006 رفع تيمة قتالية جديدة تداولها الإعلام دون أن يقف عند مدياتها فعليا، وهي تيمة " عصر المفاجآت " والتي سوف نحاول أن نرسم ملاكاتها في الصراع الاستراتيجي أمام مشروع " الشرق الأوسط الكبير " وخصوصا عمق أثرها أمام الفرق الحمراء القابعة في الإدارات الأمريكية.
البجعات السوداء في منطق الفريق الأحمر:
في الولايات المتحدة الأمريكية للديك الرومي حيثية خاصة، ذلك أنه يشكل الطبق الأساسي في بعض الأعياد الوطنية كعيد الشكر، أو الأعياد الدينية، لذلك يعمد الجزار الذي يريد بيع منتوجه من الديكة الرومية بأعلى ثمن ممكن، إلى الاهتمام بهم قرابة الألف يوم ويوم، يطعمهم ويهتم لأحوالهم الصحية قرابة الألف يوم قبل مجيء اليوم الأساسي حيث يعمد إلى ذبحهم وبيعهم.
المشكلة المنطقية التي أقامها الباحث نسيم نيكولاس طالب للاستدلال على عملية " البجعة السوداء " أن الديك الرومي يكون قد كون ثقة عالية الجودة بالجزار، لأنه انطلق من مقدمات الرعاية والاهتمام التي تتكرر لأكثر من يوم حتى تصل الألف يوم، ليتفاجئ بأنه وفي ظل أعلى منسوب ثقة ممكنة، يتم ذبحه من قبل الجزار، هذه المفاجئة هي التي تشكل البجعة السوداء. لأنها حقيقة واقعيا غير متوقعة نهائيا وفاقا للاستدلال الاستقرائي الذي مارسه الديك الرومي، فمجمل المعطيات التي كان يتحوزها بالذائقة والمعاينة والمتابعة تؤدي إلى نتيجة واحدة وهي النهاية السعيدة للديك الرومي رفقة الجزار، لا أن يذبح على يدي من رعاه. ( )
صحيح أن البجعة السوداء كانت للديك الرومي، وإلا فإن الجزار ما اهتم بطعامه وصحته إلا ليذبحه ويبيعه محققا رابحات اقتصادية، وهذه الخلفية كانت متحققة من اليوم الأول إلى اليوم الواحد بعد الألف.
لن نناقش البنية التصورية للباحث نسيم طالب، فهو قد اهتم ببناء نظرية للتعاطي مع المعلومات التي لا نملك معرفة كفاية بها، كما اللامعلوم من أساسه، حتى نتجاوز مشاريع البجعات السوداء في المستقبل، وفي مختلف المجالات، بتوسط ضبط لآليات قراءة استفهامية في جميع الاتجاهات ولملمة القرائن المنفصلة والمتصلة وفي كل المجالات.
فالمعضلة الأساس هو أن الاستقراء الذي مارسه الديك الرومي لا يمكن أن يؤدي إلى النتيجة التي وصل إليها أخيرا، ومن هنا تنفتح أزمة " الاقتناع " فلو فرضنا جدلا أن ديك رومي آخر أتى لينصح نظيره الأول، بمحاولة الهرب فإنه سيرفض ذلك على اعتبار أن النصيحة لا تتحوز مصاديق خارجية تعضدها بل العكس هو المتحقق، ويمكن أن يستدخل خلفية نفسية جديدة على أن النصيحة مدارها الحسد والغيرة ليس إلا، مؤسسا هذا الحكم على أن الناصح هو نظير له في الخلقة وخاضع بدوره لقواعد السلطة التي تحكم المزرعة، وبالتالي قدرته العقلية على التنبؤ بالمستقبل ليس إلا تخمين لا مستند عقلي له، مما يرفع منسوب العداء بين الديك الرومي الناصح والديك الرومي المنصوح، ويتحول الحوار إلى حمل توصيفات قدحية تبادلية لا تزيل أصل الإشكال، بقدر ما أنها سوف تؤبده، ويكون المصير النهائي هو الذبح، وهي الإرادة الأساس للجزار، فكما لو أن الديك الرومي الناصح من حيث لم يرد دعم استراتيجية الجزار في النهاية.
وهذا المنطلق الأساس في " حسن التلقي " و " سوء التلقي " والذي اشتغل عليه طاقم بحثي كبير وواسع في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية الأمريكية، انتهت بهم إلى ضرورة اعتماد عقول نيرة تمارس دور " دفاع العدو " وتضع تصورات وأفعال كما ردات أفعال متوافقة مع حجم المعلومات المتحوزة بخصوص الأهداف الاستراتيجية المرسومة، وعلى ضوء الخلاصات ترسم سيناريوهات فعالة تتحرك في المنطقة الرمادية للشأن السياسي العالمي، بوصفها صعبة الإدراك والإمساك في نفس الآن تضيق من ردود فعل الأعداء تجاه الولايات المتحدة الأمريكية.
فدور الفرق الحمراء هي لعب أدوار " الأعداء والخصوم " وتحديد كيفية تصرفهم في وجه الحراكات الاستراتيجية الأمريكية، ووضع خلاصات تصوراتهم التقريبية مع توصيات للتخفي اللازم بين يدي الجهات التنفيذية للمشروع الاستراتيجي، حتى تتم صياغة رؤية أكثر تكاملا وبرؤية استباقية أقرب إلى الواقع المستقبلي المتوقع على ضوء هذه الدراسات.
فالفرق الحمراء لم يعد دورها وحسب توصيف سلوكات الحالات المدروسة، بل تطور دورها إلى مجال تقديم الحلول حتى يتم التعمية على الخلفيات الضرورية بشكل يعرقل حسن التلقي عند الحالات المدروسة، حتى يتيسر تطبيق المخطط بشكل أكثر فعالية ممكنة.
وهي تقوم بثلاث مهام أساسية وفقا لطرح الباحث الأمريكي ميكا زنكو، المحاكاة وتحقيقات الضعف وتقديم التحليلات البديلة.
فالمحاكاة هي تقانة تستعمل قبل الأحداث المجدولة أو السيناريوهات المتوقعة، حيث يتم دراسة عن طريق المحاكاة كل دوافع وقدرات الجهات الفاعلة والتفاعلات المحتملة فيما بينها، يكفي أن نعلم دور الفريق الأحمر في عملية قتل " أسامة بن لادن " حيث صرح ليون بانيتا بأن العملية كانت " فريقا أحمر حتى الموت " من خلال توصيفه للغارة البحرية الأمريكية في ماي 2011 في باكستان، بما حدث من طوارئ لأنها كانت ضمن الحسبان الذي تمت دراسته قبل تنفيذ العملية.
أما تحقيقات الضعف فهي مناورة عملانية يمارسها الفريق لاختبار المنظومات الدفاعية وتعيين مواطن الضعف، عندما يضطلع بدور " الخصوم البدلاء " لاختبار مدى الموثوقية للأنظمة والإجراءات الدفاعية للمؤسسة المستهدفة.
وأما التحليلات البديلة وهي أهم جانب في وظيفة الفريق الأحمر تقوم بتجاوز أعطاب التحليل التقليدي، لأن التحليلات التقليدية تقوم بتوصيف وتحليل البيئة الحالية التي توجد فيها المؤسسة وتحلل موضوعات محددة وتولد تنبؤات، وهي تأتي لدعم كبار القادة الذين يواجهون قرارات حاسمة، ومساعدة المؤسسات على تحسين خططها وعملياتها اليومية، غير أن المحللين يمكن أن يعيقهم التحيز المعرفي أو أنماط التفكير المقبولة عادة داخل منظماتهم، وغالبا ما تشمل هذه التحيزات التصوير المرآوي، الذي يفترض فيه المحللون بشكل شبه غريزي أن خصومهم سيفكرون بنفس الطريقة التي سيعمل بها المحلل في ظل ظروف مماثلة.
ولتجاوز هذا المأزق يقدم الفريق الأحمر التحليل البديل بوصفه آلية احتياط ضد القيود البشرية والتنظيمية الطبيعية باستخدام هياكل تحليل مختلفة وفرقا غير منغمسة في الإدارات لتقديم قراءات جديدة وقد تكون عكس السير. ( )
إلا أن التوتر المتأصل في الفرق الحمراء هو كيفية العمل بنجاح داخل المؤسسة - الحصول على المعلومات والوصول إليها والاستماع إلى نتائجها - مع الحفاظ على الاستقلال المطلوب من أجل السؤال بصراحة والتحدي الصارم لتلك المؤسسة نفسها. وهذا يتطلب من الفريق الأحمر أن يكون على علم وثيق بالشخصيات والثقافة التي تحيط به، دون أن يقيده نطاق وجهات النظر المقبولة عموما. أو كما وصفها الخبير الصحي العالمي غريغوري بيريو بالساموراي الرونين في اليابان الإقطاعية التي كانت "حرة أن تخبر الشوغون بأنه كان أحمقا"، فجدلية التداخل المؤسساتي والشجاعة في طرح الرأي هي التي تميز كفاءة الفريق الأحمر من تفاهته. ( )
لماذا حرب المفاجآت استراتيجية مضادة:
الجميع تابع خطاب سماحة السيد حسن نصر الله عندما تحدث مباشرة عن قصف البارجة الحربية " ساعر " والتي شكلت واقعا ضربة قاصمة للآلية الحربية الإسرائيلية، لأنها لم تكن تدرك بأن حزب الله يتحوز صواريخ أرض – بحر بله أن المقاتلين يجيدون استعمالها، مما أدى إلى سحب القوات البحرية من الأيام الأولى للحرب، ومنذ ذلك الوقت بدأ الحديث عن المفاجآت التي تتحقق تباعا من حيث مديات الصواريخ والمعطيات العملياتية الدقيقة المتحوزة، لينقل المعركة إلى مستوى الحرب الهجينة، حيث تجاوزت كلاسيكيات حرب العصابات، بل عاد سماحة السيد حسن نصر الله ليصف تلك المفاجآت على أهميتها بالصغيرة، ليعود فيهدد بمفاجآت كبرى.
واقعا التركيز على المفاجآت في الإعلام الحربي لحزب الله لم يأتي صدفة أو كان بغرض المزايدات، بل جاء من أجل التلاعب بالمخزون الاستراتيجي الإسرائيلي بوصفه القوة العسكرية الضاربة، فأضحت التقديرات العسكرية الإسرائيلية في مهب الريح وتهاوت كل الخطط الممكن تخيلها.
وهذا بالضبط ما يقلق كل مراكز صناعة القرار الحربي في أي مكان في العالم، وهو ليس وحسب غياب المعلومة، بل مستوى العدو في المناورة القتالية، لأنها تنقض كل تقديرات الموقف، مما حذا بالفريق الأحمر التابع لمكتب الاستخبارات المركزي الأمريكي إلى وضع تقرير مصغر يطالب فيه، بابتلاع حزب الله وحماس عن طريق الدمج في القوات العسكرية النظامية ( )، لأنه واقعا يصعب رسم آلية مواجهة فعالة في ظل " العماء المعلوماتي " الدقيق المتعلق بالقدرة القتالية وآليات صناعة القرار القتالي والخطط المعتمدة.
فمتحول الردع الذي حققه حزب الله في حرب 2006 هدم كل الأقانيم المعرفية الاستراتيجية التي قامت إلى حين بعد تفكك الاتحاد السوفياتي.
فالكثير اعتقد بأنه بعد انهيار الاتحاد السوفياتي تراجع الزخم الجيوبولتيكي إلى الخلف، تاركا المجال مفتوحا أمام اتساع في الفكر الليبرالي الذي يدك الاختلافات الإثنية والدينية ويتوافق تحت تيمة واحدة وهي " برادايم السوق " بوصفه الإطار المعرفي الأكثر تماسكا لتجاوز هكذا مضائق وجودية.
وبالفعل عمدت المؤسسات الدولية والممثلة للمنتظم الدولي على إعادة قراءتها للعالم على ضوء هذا المقترب، مطالبة بتحرير الأسواق وتليين الثقافات المحلية لتتماهى مع الحدث العالمي الجديد.
ليتم استرجاع الكثير من الأطروحات الفلسفية التي تفتقت عن العقل الجرماني، لأنها من جهة أرادت قراءة حركة التأريخ حكميا، أو لأنها رأت التسيد والعبودية دينامية عقلانية داخلية لا تفقد من وهجها الحقوقي إلا لتزداد توهجا في السقف الفلسفي السياسي.
واقعا يصعب استخراج الفارق بين " الجغرافيا السياسية " و " الجيوبوليتك "، لأن المسألة لا تعدو أن تكون ثمرة تصورات فقهاء وباحثين أعلام في هكذا مجال، إلا أنه ولأسباب أكاديميا سليمة تم فرز معنائي لهذين العلمين، فالدكتور عدنان السيد حسين يرى بأن الجيوبولتيك هي فرع عن الجغرافيا السياسية، لأن الثانية هي مطارحة موضوعية لأثر الجغرافيا على الأوضاع السياسية الدولية، في حين أن الأولى تنطلق من معطيات العلم الثاني، لكنها تطمح لما يجب أن تكون عليه الدول، بمعنى أن الجيوبوليتيك هو مدى معرفي استراتيجي يقوم على الجغرافيا السياسية لكن برؤية تغييرية تهدف إلى تحقيق مطامح سياسية للدول. ( )
وكما يقول والتر راسل ميد فإنه بعد صدور كتاب " نهاية التأريخ والرجل الأخير " للمفكر فرنسيس فوكوياما، هناك من بنى على أصل النظرية للقول ب " نهاية الجيوبوليتيك " ( ) ما دامت الرؤية النهائية هي وحدوية تقوم كما الإيديولوجيا العالمية منهية الصدامات العالمية، وفي نفس الآن قاهرة للمطامح الإقليمية، ذلك أن " السيطرة على المنظومة – العالم تعني بالتعريف أنه لا يوجد سوى قوة وحيدة في وضع جيوبوليتيكي ( الجغرافيا السياسية ) يسمح لها بفرض شبكة ثابتة من التقسيم الاجتماعي للسلطة " ( )
إلا أن الواقع أشد تعقيدا ويؤكد على نشوء ما أسماه ميد مع كثير من الوقاحة ب " محور السوس " axis of weevils القائم على روسيا الإتحادية والصين الشعبية والجمهورية الإسلامية في إيران، والذي يجري مراجعات بنيوية للخلاصات السياسية التي نتجت عن انهيار الكتلة الشرقية، وبأن هذه القوى وفي ظل تلاحم بنيوي تعمد إلى تعقيد الرؤية إلى العالم، إذ أن الجيوبوليتيك الماقبل نهاية الحرب الباردة عاد وبقوة سواء في ملف أوكرانيا أو بمناسبة حالة الفشل الذريع الذي تكبدته الولايات المتحدة الأمريكية في العراق أو الهيمنة الصينية التي تتعاظم يوما عن يوم، مما جعله يبادر إلى القول بأننا نعيش حالة " غسق " تأريخي، لا نهاية التأريخ ولا بمرحلة ما بعد التأريخ كما حاول البعض أن يروجها لتدارك الهنات التصورية الفوكويامية، لأن الصراعات القائمة فعلا هي صراعات متولدة من أنساق فكرية سياسية مختلفة تماما، وليست ضمن لافتة الفكرة الديموقراطية الليبرالية حتى نتحدث سواء عن نهاية التأريخ أو مرحلة ما بعد التأريخ، فالأمر عند ميد أقرب إلى جيوب إيديولوجية مقاومة لا تخلو من قوة أو فعالية تعمل كالسوس على نخر القوة والرؤية الأمريكية على حد سواء، ليصير الحديث عن " غسق " التأريخ أولى في الاعتبار مع هكذا واقع.
لكن ما أغفله الدكتور ميد هو أن مجمل البحث الفوكويامي المنوه إليه، كان طرحا جيوبوليتيكيا بامتياز ( ) مع فارق أساس هو أنه طرح جيوبوليتيكي عولمي، لا يعير كبير انتباه إلى الخصوصيات الثقافية وتزاحم الهويات الجهوية، فكان خليطا من الاستشراف الهلوسي لأنه أقرب إلى الإيديولوجية بالمعنى الماركسي، أي الأطر المعرفية المغلقة والمانعة من القبض على الحقيقة، وهو ما حاول تداركه بأسلوب نقدي معبر صامويل هنتغتون في كتاب " صراع الحضارات "، واستلاب المؤثرات الحضارية الأخرى من الفاعلية كما لو أنها وفقدت دورها نهائيا بالاستتباع، وصار لزاما عليها أن تركب المكوك الأمريكي من جهة أن المغلوب مجبول على تقليد الغالب.
فالمسألة ليست بأكثر من صدام رؤى جيوبوليتيكية وحسب، الطرح الليبرالي رأى بأنه بعد تفكك الاتحاد السوفياتي ودخول مجموعة من الجمهوريات السابقة إلى حلف الشمال الأطلسي صارت مشروعيته أقوى ك " رؤية جديدة لروح العالم "، في حين أن المكونات الحضارية التأريخية والتي تجر معها عنفوانا متجاوزا للألفية اعتبرت بأنها تعيش مرحلة تأريخية هامة جدا تسمح لها برفع الرأس عاليا، معلنة أنها هنا في العالم، متحولة إلى كينونة في العالم على قاعدة المغالبة والاستحقاق لنيل الاعتراف.
فعودة الجيوبوليتيك إلى حلبة الصراع العالمي فرمل إلى حد كبير الامتداد العولمي بما هو إيديولوجية أعلنت نهاية عصر الإيديولوجيات، وجعلت التأريخ المحلي يعود بقوة أكبر وبمطامح جهوية أفقدت المشروع الدولي صوابه.
ليتحقق اختراق أساسي على مستوى منظومة – العالم كبنية ليبرالية رأسمالية تؤكد على مراجعات حضارية ليست ذات صبغة إيديولوجية بالضرورة، فكل الاختراقات التي أضحت ناجزة تعتمد الخصوصية الحضارية للاعبين الإقليميين في سباق نيل الاعتراف، الذي أرادت له الولايات المتحدة الأمريكية أن ينسد على شرطي " الليبرالية السياسية " و " حرية السوق "، باحثة عن موطئ قدم عولمي مضاد، فإيمانويل فاليرشتاين خلص إلى أن " خيار الخميني أساسا هو حصيلة تراكم السخط أو فورة الغضب من ويلات منظومة – العالم الحديثة والموجهة بعنف ضد المستفيدين والمحركين الرئيسيين لهذه المنظومة، بلدان المركز الغربي في الاقتصاد – العالم رأسمالي. وهذا يعني أن المقصود هنا إدانة الغرب بما في ذلك وربما حتى قيم الأنوار على الخصوص. " ( ).
وحزب الله بما هو تنظيم حامل لفكرة إنسانية ممانعة يقع على نقيض مسار تأريخي يفرض من فواعل خارجية، لا يمكن التعاطي معه إلا كنسق لا كحركة أفكار، لأنه يقف هوياتيا في وجه هذا السير.
فهو يعي جيدا بأنه يعيش في محيط اجتماعي مركب ومعقد العلاقات، إلا أنه وكأي نسق يحافظ على " المائز " الذي يحكمه ( ) بتوسط ما يسميه السوسيولوجي الألماني نيكلاس لوهمان بتقنية الإنتاج الذاتي autopoïèse بما هي تراكم تفاعل الوحدات الداخلية فيما بينها إلى درجة خلق شبكة، والتي تستمر في التفاعل فتولد تفاعلات جديدة بشكل لا نهائي وشبكات لا نهائية بدورها، للوقوف في وجه المتحولات الخارجية.
فسقف التشخص الذاتي عند حزب الله هو معامل وجوده في المحيط المعقد الذي يتعايش معه، بمخالطة دون ممازجة.
مما يجعل معامل التكهن بدائرة حركته أو مسلكياتها صعب مستصعب، وهو من هنا شكل عقدة حتى لدى الفرق الحمراء، وهو من هنا بالضبط وإن كان في دائرة أوسع جعل سماحة السيد حسن نصر الله في إحدى المؤتمرات الصحفية يقول " إن الإمام أمير المؤمنين (علي بن أبي طالب) عليه السلام يقول: "إن هبت أمرا فَقَع فيه". ماذا يعني؟ من يتآمر على المقاومة ومن يتآمر على لبنان والذي فشلت كل مشاريعه هو الذي يجب أن يكون خائفاً وقلقاً، لأن مشاريعه ستفشل وتخسر وتهزم من جديد، نحن أبدا لسنا خائفين ولسنا قلقين بل نحن أهل حق و(نحن نعرف حالنا شو عاملين)، ونعرف ما هي المسؤوليات التي نحملها، ونعرف الأرض التي نقف عليها، وأحب أن أقول لبعض الناس إنهم حسبوا غلط كثيراً بالزمان، ودائما حسبوا غلط، ولا مرة حسبوا صح، فليتعلموا من كل التجارب لكي يحسبوا صح هذه المرة، وما يحسبوا غلط. "
فالغلط في الحساب الاستراتيجي هو أخطر أنواع الغلط الممكن تصورها، وحزب الله بوصفه نسق مغلق أو " علبة بكماء " لا يرشح منها لا آليات رسم السياسات الدفاعية أو القتالية، ولا مديات الفعل الحربي، يجعلها أقرب إلى " حفرة سوداء " تبتلع طاقات كل من يقترب منها، وتمنعه حتى من لعب دورها في قلب " المؤسسات الاستراتيجية الأمريكية ".
عبد العالي العبدوني
- نسيم نيكولاس طالب: البجعة السوداء تداعيات الأحداث الغير المتوقعة، الدار العربية للعلوم ناشرون، طبعة سنة 2008 راجع ابتداءا من الصفحة 80 فما يليه.
ـ لمزيد من التوسع الرجوع إلى الكتاب
Micah Zenko : Red Team - how to succeed by thinking like the enemy, a CFR Book, 2015.
ـ نفس المرجع ضمن عنوان كيف تنجح الفرق الحمراء وكيف تفشل، مع التأكيد على أن ظاهرة الرونان Ronin هم رجال الساموراي الذين فقدوا سيدهم وتاهوا في الجغرافيا يبحثون عن تحقيق العدالة دون انضباط للمرجعية الأساسية مما أوكلهم صلاحيات إضافية وخلصهم من قيود كثيرة، لذلك التوصيف المستعمل كان ناجحا بامتياز.
- Mark Perry : Red Team CENTCOM thinks outside the box on Hamas and Hezbollah, foreign policy site 30 june 2010.
http://foreignpolicy.com/2010/06/30/centcom-thinks-outside-the-box-on-hamas-and-hezbollah/
- لمزيد من التوسع مراجعة كتاب الدكتور عدنان السيد حسين الجغرافيا السياسية والاقتصادية والسكانية للعالم المعاصر صادر عن دار مجد ( المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ) لبنان الطبعة الثانية سنة 1996 ابتداءا من الصفحة 61 وما يليها.
- Walter Russell Mead : the return of geopolitics , the revenge of the revisionist powers, foreign affairs, volume 93 number 3, may/june 2014, p 70.
- عمانوئيل فاليرشتيان: استمرارية التاريخ، تر: عبد الحميد الأتاسي، الناشر دار كنعان، الطبعة الثانية سنة 2003 الصفحة 55.
- Frédérick Douzet, David H. Kaplan: « Geopolitics : la géopolitique dans le monde angloaméricain », Hérodote 2012/3 (n° 146-147), p. 237-252. “Francis Fukuyama (The End of History and the Last Man, 1992), Samuel Huntington (The Clash of Civilizations and the Remaking of World Order, 1996) ou John Mearsheimer (The Tragedy of Great Powers, 2001) élaborèrent chacun un discours géopolitique offrant un nouveau cadre pour comprendre le monde d’après guerre froide.” p 241.
- عمانوئيل فاليرشتيان: ن.م، الصفحتان 49 و 50.
- Danny Boisvert : Niklas Luhmann : la théorie des systèmes sociaux, « Les systèmes sociaux des sociétés modernes, peu importe leur complexité et leur durée dans le temps (que ce soit l’économie, les systèmes légal, politique ou religieux, les organisations, les groupes sociaux ou les interactions) assurent leur identité et leur autoreproduction (leur autopoïèse) en préservant leur différence par rapport à un environnement complexe » p. 58, Revue Aspects sociologiques, volume 13, no 1, août 2006
المقالات الواردة في الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر عن رأي إدارة الموقع