رغم التأكيدات القولية التي زخرت بها وثيقة «حماس» السياسية، كان هناك استثناء وحيد، بُدئ بعبارة «مع ذلك»، كفيلاً بتفجير الموقف الشعبي والفصائلي، رغم إحجام بعض التنظيمات عن التعليق. الاستثناء، تشرح فيه الحركة أن مشروعها لما قبل التحرير هو دولة على حدود 1967، إذ إنه صار «صيغة توافقية وطنية مشتركة».
لكن ذلك ليس منفصلاً عن مكان إعلانه وتوقيته إقليمياً ودولياً: قطر، وقُبيل قمة عباس ــ ترامب الخاصة بالتسوية، وكذلك محلياً وداخلياً: إضراب الأسرى الجاري، وقبل وقت قصير من انتهاء ولاية خالد مشعل. ثلاثة وجوه أساسية تغيّرت بين الميثاقين، القديم والجديد، عدا لغة الصياغة وحجم النص وطريقة العرض (والترجمة الإنكليزية): غاب الوجه الديني للمعركة «يقاتل المسلمون اليهود»، وحضر في النص الحالي التشديد على «رفض اضطهاد أيّ إنسان... على أساس قومي أو ديني أو طائفي»؛ غابت «الإخوان» وحضرت «الأمة والمجتمع الدولي»، ثم جاءت دولة الـ67.صحيح أن فكرة الدولة كانت تُحكى حمساوياً منذ أكثر من عشر سنوات، لكنها رُسّخت اليوم، ليس ببرنامج سياسي للمناورة (5 ــ 10 سنوات)، بل بميثاق لا يظهر إن كان تثبيتاً لسياسة مارستها الحركة (حروب التحريك لا التحرير)، أو مقدمة لهذا العهد!
تأخرت «حركة المقاومة الإسلامية ـــ حماس» في إطلاق «وثيقة المبادئ والسياسات العامة» شهراً كاملاً، بسبب اغتيال القيادي في «كتائب عز الدين القسام» الشهيد مازن الفقها، كما قالت مصادر في الحركة. تضمنت الوثيقة التي كشف عنها رئيس المكتب السياسي للحركة خالد مشعل، أول من أمس، خلاصة تجربة «حماس» السياسية منذ تأسيسها وتطوّر فكرها، ونظرتها إلى الصراع مع العدو الإسرائيلي. لم تتضمن الوثيقة (راجع نصها في الصفحة التالية) التي أعلنها «أبو الوليد» أي جديد، فهي كانت قد سُرّبت بالكامل قبل مدة، واطّلع وعلّق عليها من يهمّه الشأن الفلسطيني.
حينذاك، أثارت الوثيقة المسرّبة، التي صارت رسمية بعد إعلان مشعل، جملة من ردود الفعل، خصوصاً في ما يتعلق باعتراف الحركة بدولة على حدود الرابع من حزيران من عام ١٩٦٧، أي بمعنى آخر: اعتراف ضمني بحلّ الدولتين، وما لذلك من تأثير سلبي في الوجدان الفلسطيني.
الموافقة على دولة بحدود الـ٦٧ جاء صريحاً في الوثيقة الجديدة، وذلك في البند الرقم عشرين، إذ رغم قول الحركة إنه «لا تنازلَ عن أيّ جزء من أرض فلسطين، مهما كانت الأسباب والظروف والضغوط، ومهما طال الاحتلال، (ورفضها) أي بديلٍ من تحرير فلسطين تحريراً كاملاً، من نهرها إلى بحرها»، فإن «حماس تعتبر أن إقامة دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة، وعاصمتها القدس، على خطوط الرابع من حزيران/ يونيو 1967، مع عودة اللاجئين والنازحين إلى منازلهم التي أخرجوا منها، هي صيغة توافقية وطنية مشتركة». هذا البند الإشكالي أعاد إلى ذاكرة غالبية قيادات الفصائل الفلسطينية تجربة «منظمة التحرير» عام ١٩٨٨.
حينذاك، ونتيجة الضغوط الدولية والعربية التي مورست على المنظمة (كما الحال اليوم مع «حماس»)، عدّل «المجلس الوطني الفلسطيني» ميثاقه الداخلي، ليعلن قيام دولة على حدود ٦٧. هذه المقاربة، لا تفارق بال الكثير من قيادات المقاومة، الذين رفضوا التعليق على الوثيقة في انتظار بيان رسمي من فصائلهم.
قيادات في «الجهاد الإسلامي» رفضت التعليق على الوثيقة، طالبة انتظار «التصريح الرسمي الذي سيصدر عن الحركة»، لكن قيادات أخرى في المقاومة رأت أن «حماس عادت إلى زمن أبو عمار»، متسائلة: «ما نفع كل ما فعلناه رفضاً لأوسلو، إذا كنا سنعود إلى خيارات ياسر عرفات؟».
تتفهّم هذه القيادات صعوبة ما تواجهه «حماس» من ضغوطات، خصوصاً من حصار ما يقارب مليوني إنسان في غزة وتضييق دولي عليها، مستذكرة بذلك ما مرّ به ياسر عرفات عام ١٩٨٨. وتخوّفت مصادر في المقاومة الفلسطينية من أن تكون هذه الخطوة «مقدمة لتنازلات أخرى قد تقدمها حماس، كما فعلت فتح قبلها».
أيضاً، انتقدت بعض الفصائل توقيت إعلان الوثيقة ومكانه. وقالت مصادر في أحد فصائل المقاومة إنه «لا يمكن لفصيل مقاوم إعلان وثيقته السياسية من قطر، خصوصاً لما للإمارة من تأثير في الحركة». كذلك رأت فصائل أخرى أن ما تعيشه «حماس» اليوم هو تكرار لما مرّت به «فتح»، فالأخيرة ترى نفسها «الطلقة الأولى وكانت ملتزمة قرارات العواصم العربية، لذلك هناك خوف من أن ترهن حماس نفسها لتركيا وقطر». وعن وثيقة الحركة، تقول: «يمكنك أن تجد فيها ما تريد، إذا كنت مع محور المقاومة يمكنك أخذ ما تريد، وإذا كنت مع خيار التسوية يمكنك أن تأخذ منها أيضاً ما تريد».
بالنسبة إلى «أبناء أحمد ياسين»، فإن هذه الوثيقة هي مخرجهم حالياً من المأزق الذي يمرون به على الصعيد الدولي، وهي موجهة تحديداً إلى الاتحاد الأوروبي. فالقراءة الحمساوية لما ستواجهه الحركة في الأيام المقبلة تقول إنهم سيتعرضون للمزيد من «الضغط من السلطة الفلسطينية والمجتمع الدولي». وتضيف مصادر في الحركة أن «هناك محاولة لإظهار حماس كتنظيم متطرف مثل داعش، لذلك حددنا أن صراعنا هو مع الصهيونية ولسنا ضد الدين اليهودي، وأننا حركة مقاومة ضد الاحتلال».
بعض الحمساويين رفضوا إعلان الحركة اعترافها بحدود عام ١٩٦٧، بسبب كثرة الأخذ والرد اللذين أعقبا تسريب هذا البند، فارتفعت أصوات طالبت بشطبه. وبعد مناقشة داخلية، وافق الرافضون على إبقائه لإتاحة «المجال للحركة للمناورة السياسية براحة أكبر... ونحن على يقين بأن العدو لن يتنازل ولن يتراجع إلى حدود عام ١٩٦٧». تكمل المصادر: «غالبية بنود الوثيقة لا تعترف بوجود كيان العدو الإسرائيلي»، متسائلة: «هل تعتقد أن شخصاً قضى عمره في مقاومة العدو مثل محمد الضيف، سيعترف بإسرائيل؟».
وإذا كان توقيت إعلان مشعل الوثيقة غير مناسب، بسبب إشغاله الرأي العام الفلسطيني والعربي بالحديث عن الوثيقة عوضاً عن دعم إضراب الأسرى عن الطعام، فإن المتحدث الرسمي باسم «كتائب القسام» أبو عبيدة أعاد بعد نحو 24 ساعة توجيه البوصلة إليهم. ففي كلمة بثّت أمس، دعا أبو عبيدة إلى «الاستنفار وحشد كل الجهود والنفير في يوم الغضب نصرة للأسرى الأحرار غداً الأربعاء (اليوم) في رام الله وفي كل ميادين الضفة الباسلة».
وأمهلت الكتائب «قيادة العدو أربعاً وعشرين ساعة للاستجابة لمطالب الأسرى، وإلا فإن كتائب القسام قررت أن تدفّع العدوّ ثمن كل يوم تأخير في الاستجابة لمطالبهم... إننا سنقوم بتحديث القوائم المرتبطة بصفقة تبادل الأسرى، بزيادة ثلاثين أسيراً على القوائم مقابل كل يوم يتأخر فيه العدو عن تلبية مطالب الأسرى المشروعة والعادلة».
إلى ذلك، كان لافتاً أن عدة فنادق قطرية اعتذرت عن عدم استضافة المؤتمر الصحافي لـ«حماس»، الأمر الذي اضطر القائمين عليه إلى تأجيله لساعات، بعدما اعتذرت إدارة فندقين. وعلّق القيادي الحمساوي عزت الرشق على ذلك بالقول في «تويتر» إن «الأبواب باتت تغلق لمنع المؤتمر الصحافي المزمع عقده حول وثيقة حماس... فليعلم الحمقى أن مَن صمد أمام آلة حرب الاحتلال سيقابل بكل سخرية حرب القاعات التي لجأ إليها أذنابه».