في عام 1992 انطلقت عملية سياسية لإتمام مصالحة بين العرب وإسرائيل. وانطلق نقاش بين مختلف المجموعات والأحزاب السياسية والشعبية والمرجعيات، حول الموقف من فكرة التصالح مع العدو، والاعتراف بإسرائيل.
صحيح أن الإحباط كان يسود العالم العربي إثر الغزو الأميركي الأول لمنطقتنا بحجة تحرير الكويت من احتلال عراقي، وصحيح أيضاً أن تعباً كان واضحاً على جميع الأنظمة وغالبية القوى التقليدية، وصحيح أن قيادة منظمة التحرير قررت في حينه القبول بتسوية مع إسرائيل تعطيها جزءاً من حق العودة إلى أراضي الـ1967، مع سلطة محلية، لكن الصحيح أكثر أن مسارات الناس كانت مختلفة.
المقاومة في لبنان تتقدم أشواطاً في إنهاك الاحتلال، والمقاومة في فلسطين يشتد عودها بعد الانتفاضة الاولى، والعالم العربي يشهد أكبر انقسام بين شارعه وحكوماته حيال القضية المركزية فلسطين.
في ذلك الزمن، كان لبنان مثل غيره من الدول غارقاً في هذا النقاش. وكان الجدل يقترب من مرجعيات دينية سعت الولايات المتحدة إلى دفعها نحو تشريع الاعتراف بكيان العدو. يومها، خرج المرجع الإسلامي الراحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين بفتوى قالت بضرورة التمييز بين «ضرورات الأنظمة وخيارات الأمة».
يومها، تعرّض الرجل لانتقادات، من جانب القوى الأكثر راديكالية في مقارعة العدو. واعتُبرت فتواه كأنها تجيز أمرين متناقضين: واحد يبرر للأنظمة فعل الخيانة بالتخلي عن أرض وحقوق، وثان يجيز للشعوب المقاومة حتى استعادة كامل الحقوق. لكن الرجل الذي كان في موقع أقرب إلى السلطة في البلاد، وجد نفسه في موقع المانع لإقفال الباب أمام الناس من أخذ خيار المقاومة. لم يكن الشيخ الجليل غافلاً عن مسعى الأنظمة إلى تسويات أكبر من تلك التي كانت مطروحة، لكنه كان يخشى أن يتم اعتبار مشاريع الأنظمة أمراً مقبولاً حُكماً من قبل الشعوب. ولذلك، قال ما قاله، مفسحاً المجال أمام من يهمه الأمر لأن يتخذ الموقف المناسب.
طبعاً، لم يكن العدو كثير الحيلة، إذ لم يمض الوقت الطويل حتى قالت إسرائيل لمن مدّ اليد لها إنها ليست في وارد إقامة السلام مقابل الأرض، وإنها تريد كل شيء من دون مقابل. وهو أمر ترافق مع تعزز حالة المقاومة في لبنان وفلسطين، باتجاه التحوّل إلى نموذج بديل من نموذج المفاوضات، في سياق العمل على استعادة الحقوق.
ربما لم تكن قوى المقاومة في حينه بالقدرة والمكانة اللتين هي عليهما اليوم. لكن المقاومة، مثل أي مقاومة في التاريخ، كانت تعرف أن المعركة مع العدو لا تحتمل المناورة، ولا الحذلقة والفذلكة في الكلام والخطاب، وأن من يبذل الدماء والروح لا يتنازل عن الموقف والكلمة. وكل ما كانت قوى المقاومة تطلبه من الناس هو الصبر، والاحتفاظ بحق رفض وجود الاحتلال بكل أشكاله. وهو ما جعل قوى المقاومة خلال سنوات قليلة ترث كل ما سبقها من قوى سياسية وتنهك الأنظمة من حولها وتربكها، قبل أن تتحول إلى قوى لها تمثيلها الشعبي الساحق، أقله في لبنان وفلسطين.
اليوم، تعيش فلسطين واقع القهر المضاعف، ويعيش أهلها في داخلها المحرر أو المحتل أو حيث الشتات، أقسى ظروف العزل والضغط والقمع. واليوم، ينشغل العرب جميعاً في دول الطوق، ومن الخليج إلى المحيط، بمشكلات تدمّر دولاً بأكملها، وتجعل بلاداً مثل العراق وسوريا وليبيا واليمن تعيش نكبات أين منها ما مرّ... واليوم، يصرف العرب أموالهم وجهودهم وطاقاتهم في مواجهة بعضهم بعضاً، وصاروا أكثر تبعية من ذي قبل لسياسات دولية همّها السيطرة على بلادنا. واليوم، ربما لم تعد فلسطين أولوية حقيقية عند كثيرين من أصحاب النفوذ.
لكن ذلك لا يعني أن في مقدور أيّ فلسطيني المغامرة بالتخلي، ولو اللفظي، عن جزء من فلسطين، عن حرف من اسمها أو عن متر من أرضها. ومن ينله التعب والعجز عن المقاومة، ليس أمامه إلا الخيار الذي طرح على من تخاذل سابقاً، وهو خيار الانسحاب من المعركة. ولن يلومه أحد، بل سيحفظ له الناس كل تضحياته وجهوده في هذه المعركة الكبيرة والمفتوحة إلى يوم استعادة كل فلسطين.
حماس وُلدت حركة مقاومة ضد الاحتلال، ولا معنى لكل نقاش حول جذرها الأيديولوجي عندما تكون في موقع القتال ضد العدو، ولا يحق لأحد البحث في أصلها وفصلها، ما دامت ترفع لواء المقاومة المستمرة ضد العدو... لكن ثمة خشية مشروعة باتت اليوم على طاولة البحث، وعلى قيادة وكوادر وجمهور حماس عدم تجاهلها. وهي خشية سببها تلك الأسطر الواردة في وثيقتها، حيث القبول بحل مرحلي، يقوم على فكرة دولة فلسطينية على قسم من فلسطين!
نعود إلى محمود درويش صارخاً بحب:
«على هذه الأرض ما يستحقّ الحياةْ،
على هذه الأرض سيدةُ الأرض،
أم البدايات أم النهايات،
كانت تسمى فلسطين، صارتْ تسمى فلسطين».
ليس من حق أيّ فلسطيني، أو عربي، أو حرّ، في هذا العالم، القبول ببقاء الاحتلال على أيّ متر من أرض فلسطين!