يقدم «أستانا 4» دليلاً جديداً على أنّ أيّ تطور حقيقي في مسارات الحل السوري لا يبدو وارداً من دون توافقٍ بين مختلف الأطراف المؤثرة. وعلى الرغم من أنّ توقيع «مذكرة إنشاء مناطق تخفيف التوتر» يبدو للوهلة الأولى تطوّراً نوعيّاً، غير أن مهمة تجنيب المذكرة مصير اتفاقات الهدن السابقة التي تحولت إلى مجرد حبر على ورق ليست سهلة على الإطلاق. 

التوتر الذي رافق الإعلان عن توقيع مذكرة إنشاء «مناطق تخفيف التوتر» يوجز الكثير من العقبات التي تعترض أي مسار تفاوضي في الأزمة السوريّة. وعلاوة على تعدّد اللاعبين وتضارب مصالحهم، يبرز تداخل ولاءات المعارضة وتوزّعها بين دول عدّة قادرة على التأثير المباشر في أي لحظة، ما يتكفّل بجعل أي خطوة لا تحظى من ألفها إلى يائها بتوافق كل الأطراف الفاعلة الحقيقيّة مجرّد خطوة ناقصةً أو محدودة التأثير في أفضل الأحوال.

وثمّة ملاحظات كثيرة تستوجب التوقف عندها في ما شهدته العاصمة الكازاخيّة أمس، ليس سلوك وفد المعارضة المسلّحة سوى أوضحها. ومن بين تلك الملاحظات يبرز على وجه الخصوص افتقاد الدول الضامنة القدرة على ضمان التنفيذ في الجنوب السوري (ريف درعا، وريف القنيطرة)، حيث القدرة على التأثير الفاعل مرهونة بالولايات المتحدة، ومن دون إغفال الدور الإسرائيلي أيضاً. كذلك يحتاج تنفيذ مشروع كهذا في الغوطة إلى ضوء أخضر من السعوديّة صاحبة النفوذ على «جيش الإسلام» الذي يُعدّ من بين «أبرز» المجموعات المسلّحة هناك. وفي ظل هذه المُسلّمات، يغدو الرهان على تحول «مذكرة أستانا» من حبر على ورق إلى اتفاق يتم تطبيقه على الأرض من دون دعم أميركي رهاناً بعيداً عن الواقعيّة.
ويغدو بديهيّاً أن الحكم على حظوظ المذكرة بوصفها تفصيلاً من تفاصيل المشهد السوري يستوجب انتظار ما سيتمخّض عن زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لكل من السعودية وإسرائيل أواخر الشهر الجاري. وفيما كان الحديث يدور عن أربع أو خمس مناطق تشملها المذكرة، كشفت وزارة الخارجيّة التركيّة عن أنّ المناطق المشمولة هي «ريف إدلب بالكامل والغوطة الشرقية في ريف دمشق وأجزاء من أرياف حلب واللاذقية وحماة وحمص ودرعا والقنيطرة». ولم يحل توسيع نطاق المناطق المشمولة بين وفد المعارضة المسلّحة وبين اتخاذه موقفاً رافضاً للمذكرة احتجاجاً على «توقيع إيران بوصفها طرفاً ضامناً». وفي أوّل تعليق روسي على موقف الوفد المعارض، قلّل رئيس الوفد الروسي ألكسندر لافرينتيف من «التأثيرات المحتملة»، وعدّه «سلوكاً عاطفيّاً». ورأى لافرينتيف أن «تصرف المعارضة السورية المسلحة أثناء توقيع المذكرة دليل على انعدام الخبرة السياسية للمعارضين». ويقتضي الموقف الذي اتخذه وفد المعارضة المسلّحة التساؤل عمّا شهدته كواليس الاتصالات بين الوفد والدول المؤثّرة (من دون استثناء تركيّا نفسها من قائمة تلك الدول). وعلى الرغم من أن مسار أستانا بأكمله قد أتاح لأنقرة اعترافاً ضمنيّاً بمركزية دورها وأنّ نجاح تنفيذ أي اتفاق تحتضنه العاصمة الكازاخيّة كفيلٌ بتعزيز هذا الدور، غير أن قيام مجموعات مسلحة محسوبة على أنقرة بمهاجمة اتفاق «مناطق تخفيف التوتر» لا يبدو موقفاً اعتباطيّاً. وكانت سبع مجموعات مسلّحة قد استبقت موقف الوفد المعارض بإصدار بيان رفضت فيه «تحويل إيران إلى طرف ضامن». وسرعان ما تناغم موقف الوفد المعارض مع البيان عبر مهاجمة أحد أعضائه (ياسر عبد الرحيم) الدور الإيراني بالصراخ والشتائم والتهديد بالميدان أوّل الأمر، وتالياً على لسان الناطق باسم الوفد (أسامة أبو زيد) الذي جاءت فحوى تصريحاته مطابقة لبيان «الفصائل الثوريّة». وبدا لافتاً أنّ المجموعات الموقّعة على البيان المذكور هي مجموعات متنوّعة الولاء بين تركيّا والسعودية والولايات المتحدة، وأن المعارك الطاحنة التي يخوضها «جيش الإسلام» و«فيلق الرحمن» في ما بينهما في الغوطة لم تشكل حائلاً بينهما وبين التوقيع على البيان المشترك إلى جانب كلّ من «حركة أحرار الشام الإسلامية، الجبهة الشاميّة، جيش اليرموك، جيش إدلب الحر، جيش النصر». ومع ملاحظة هامش المناورة الذي يتيحه موقف تلك المجموعات لأنقرة، ومع الأخذ بعين الاعتبار القدرة التركية على الالتفاف حول اتفاقات سابقة، تبدو حظوظ الاتفاق في التطبيق الجدّي منخفضة، إن لم تكن معدومة. ويعزّز ذلك أن كل المناطق المشمولة بالاتفاق لا تُشكّل هواجس لأنقرة المشغولة في الدرجة الأولى بالهاجس الكردي وضرورة إضفاء صفة رسميّة على «المنطقة الآمنة» المتاخمة لمناطق سيطرة «قوات سوريا الديمقراطيّة»، وهي المنطقة التي احتلّتها تركيا تحت مسمى «درع الفرات». لكنّ مصادر كرديّة سورية رأت في اتفاق أمس مقدّمة لـ«شرعنة مناطق الاحتلال التركي ومنحها صفة المنطقة الآمنة لاحقاً». وقالت المصادر لـ«الأخبار» إنّ «بعض المعلومات تتحدّث عن وعود تلقّتها أنقرة ببحث المنطقة الآمنة بين جرابلس والباب حال نجاح تطبيق تجربة المناطق التي نصّ عليها اتفاق أستانا». وعلى المقلب الآخر، تبرز دعوة رئيس الوفد السوري الرسمي بشار الجعفري كلّاً من موسكو وطهران لبحث تفاصيل الاتفاق في دمشق. وقال الجعفري، خلال مؤتمر صحافي عقب اختتام الجلسة العامة لـ«أستانا 4» أمس، «نأمل من الأصدقاء الروس والإيرانيين بحث هذه المذكّرة في دمشق في أسرع وقت ممكن». ونفى مصدر دبلوماسي سوري أن تكون هذه الدعوة تعني «عدم اطّلاع دمشق على التفاصيل قبل توقيع المذكّرة». وقال المصدر لـ«الأخبار» إنّ «دمشق اطّلعت على المقترح الروسي ووافقت عليه قبل كشف موسكو عنه». المصدر أكّد أنّ دعوة الجعفري إنّما تعني «بحث التفاصيل التقنيّة وسبل تطبيق المذكرة». في الوقت نفسه، جدّد المصدر التأكيد أنّ «الدولة السورية تلتزم بكل الاتفاقات التي تكون طرفاً فيها، وهي في الوقت نفسه ستمضي في محاربة الإرهاب بمختلف مسمّياته، وهذا موقف مبدئي وثابت لدى حلفائها أيضاً».
خطوة في مسار

حصلت «الأخبار» أمس على معلومات غير رسميّة مفادُها أن مذكرة «مناطق تخفيف التوتر» إنّما هي «خطوة في مسار متفق عليه بين الأطراف الضامنة، وتتم مناقشة تفاصيله مع بقية الأطراف». ووفقاً للمعلومات، فإنّ المسار المذكور يلحظ «ضرورة وجود دور أساسيّ لمجلس الأمن الدولي». وتقول المعلومات إنّ من المفترض أن «يقدم المبعوث الأممي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا إحاطة وافية أمام المجلس في وقت قريب، كما يتوقّع أن تقدّم موسكو مشروع قرار إلى مجلس الأمن لدعم مذكرة أستانا». ووفقاً للمعلومات، فإنّ موسكو «تعوّل على نجاحها في تحصيل توافق يقود إلى إصدار قرارات عن مجلس الأمن تحت البند السادس من ميثاق الأمم المتحدة». ويختص البند السادس في «حل المنازعات حلّاً سلميّاً»، ويتألف من ست مواد تتمحور حول «الحلول السلمية»، من دون أن يقدّم خطوات إجرائيّة ثابتة، أو يلوّح باستخدام القوّة العسكريّة لفرض الحل (كما هي الحال في البند السابع). وتعزّز هذه المعلومات، في حال صحّتها، حاجة موسكو الملحّة إلى تعاون أميركي في الدرجة الأولى، يضمن إمرار مشروع من هذا النوع.

المصدر: صهيب عنجريني - الأخبار