لـ«الحشد الشعبي» في العراق بيئةٌ حاضنةٌ خرج منها مقاتلوه، لدوافع شتّى: أبرزها فتوى المرجعية، ودفاعاً عن وجودهم ضد مسلحي «داعش». البعض أراد أن ينتسب إلى «الحشد»، إلا أن ظروفه منعته من ذلك، فوجد ضالّته في «خدمةٍ» من نوعٍ آخر. بجهدٍ فردي، وجدوا على خطوط التماس، وباتوا مقاتلين وسلاحاً استثنائياً
تل عبطة | في بلد (65 كلم شمالي بغداد)، تستعد أم حسين، ربّة منزل، وعائلتها المكوّنة من زوجها وأبنائها الثلاثة للذهاب إلى تل عبطة (280 كلم شمالي غربي بلد). رحلةٌ ـــ بالمقياس اللبناني ـــ قد توصف بالشاقّة، إلا أن المسافة بتعبير أم حسين، ليست سوى «عادية، كُلّش (كثير) قصيرة». تل عبطة ليست إلا محطة انطلاق أو استراحة، في مسيرة القافلة، المكوّنة من شاحنيتن صغيرتين (بيك آب) إلى خطوط التماس ضد مسلّحي «داعش»، والتي تبعد ـــ في بعض الأحيان ـــ أكثر من 100 كلم.
تستغرق رحلة أم حسين الأولى حوالى ست ساعات، أما رحلتها الثانية فتصل إلى حدود الثلاث، ما مجموعه تسع ساعات. تُحمّل المرأة الأربعينية في قافلتها ذخيرةً مختلفة: تِمّن (الرز باللفظ العراقي)، والدجاج المشوي، وبعض أنواع الأجبان والفاكهة، إضافةً إلى بعض المستلزمات التي يحتاج إليها مقاتلو «الحشد الشعبي».
منذ تأسيس «الحشد»، في حزيران 2014، بدأت حكاية أم حسين التي تنسب نفسها إلى «صفوف الحشد»، فهي واحدة من مقاتليه، بمهمة خاصّة. سمراء تميلُ بشرتها إلى سوادٍ يُكسرُ ببسمةٍ خجولة، وعينين بنيتين غائرتين، كحّلهما التعب. بلغت المرأة الأربعين، وهمّتها لا تزال عشرينية. هي متطوعة في إحدى حسينيات مدينتها، وهناك أنشأت هيئةً أهلية لـ«دعم مقاتلي الحشد بما تيسّر».
ثلاث سنوات، وأم حسين، على الوتيرة نفسها. تجمع المال والتبرعات العينية، وتلاحق المقاتلين في جبهات القتال. «عرفنا كل الجبهات، ورحنلها كلها الساحل الأيسر (القاطع الشرقي لمدينة الموصل)، الساحل الأيمن (القاطع الغربي)، وغيرها»، تقول ببسمتها المعهودة، مشيرةً إلى قدور الرز والدجاج المشوي، «هسّه (الآن) نوزعون ع الشباب... ورايحين ع المتقدّم (خطوط التماس الأولى في محيط مدينة القيروان، جنوبي غربي الموصل)».
تبستم، مرّةً أخرى، «عافيه عليك (أحسنت)»، مثنيةً على أحد مقاتلي «الحشد». البعض يعرفها، وهي تعرف بعضهم الآخر. تمسك بشادورها الأسود جيّداً، كي تخفي بدلتها العسكرية، تنادي زوجها وأبناءها لإنزال «الحمولة» بسرعةٍ أكبر، عند باب كلّ مقرّ من مقارّ «الحشد» في تل عبطة.
تساعد أم حسين زوجها، فيما يسارع المقاتلون إلى أخذ «السلفي» مع أبنائها الثلاثة: صبيّان وبنت. صاح أحد المقاتلين «هذا لبناني!»، فردّ أبو حسين «هذا الولد (قاصداً ابنه) اسمو حسن نصرالله، خلق بالـ 2006، وسميتو ع اسمو». يشبه أمّه كثيراً، بسمرتها وعينيها وخجلها، إلا أن اسمه كفيلٌ بأن يرسم بسمة لكل من يناديه. تبسّم حسن نصرالله، فبادرته ممازحاً «ها سيّد»، فهذا الاسم تحديداً ملازمٌ للفظ «السيّد».
حسن نصرالله، عبدالله وزينب الأبناء الثلاثة. رحّالة صغار دون الخامسة عشرة، يلبسون زياً عسكرياً، ويحدثونك عن خطوط التماس ضد مسلحي «داعش». يعرفونها جيّداً، هي رحلتهم الترفيهية. هناك، مع أهلهم، يقضون أوقات فراغهم، من محور إلى آخر، ومن مدينةٍ إلى أخرى، وسط صحراء قاحلة، ورمال وغبار، حرارة لا تطاق، يبرّدها فقط منظر المياه الجارية في بحرٍ عظيم يسمّى «نهر دجلة».
رحلة أم حسين ـــ ذات الساعات السبع ـــ من بلد إلى تل عبطة أسبوعية. طالما المعارك قائمة، فالرحلات إلى هناك مستمرة بمعدّل ثلاثة أيامٍ في الأسبوع الواحد. وإذا وضعت الحرب بعض أوزارها، فإن خطوط أم حسين «البريّة» تتوسّع لتصل إلى مختلف القطعات العسكرية، في مختلف المناطق والمحاور.
تسأل أم حسين «من أين؟». أجيبها من لبنان، تردّ مباشرةً «الأسبوع الجاي في لبنان». لوهلةٍ ظننت أن المرأة في سياحةٍ قبل شهر رمضان. عاجلتها بابتسامة ترحيب فـ«البلد بلدك»، لكنها أخفت بسمتها، وهمست «بتعالج من السرطان في مستشفى الروم، وبتابع كل علاجي في لبنان». كان جوابها قاسياً، صادماً. لم تسعفني كلماتي، سوى بالدعاء بالشفاء، لتعيد بسمتها قائلةً «مهم نكون ويّ (مع) الحشد».
أنهت أم حسين مهمتها في هذا المقر، لتنتقل إلى مقرّ آخر، قبل أن تتوجه إلى محيط القيروان، إلا أن المقاتلين عاجلوها بالكاميرات، لحفظ تلك اللحظة، فمعظمهم «يوثّق» ما يجري معهم، ليعيدوا «عرض لحظاتهم» على مرأى أهاليهم.
أم حسين ليست حالةً استثنائية. هناك الكثيرون مثلها، حيث تكون الحرب قائمة. في تل عبطة مثلاً، يوجد «شارع المواكب»، والذي يضم خمسة مواكب، يُطهى فيها الرز والمرق (اليخنة وفق المطبخ اللبناني)، وبعض المأكولات الأخرى، لتوزّع لاحقاً على المقارّ والنقاط الأخرى المنتشرة على طول خطوط التماس.
ولا تقتصر تقديمات المواكب على الطعام، بل تقدّم أيضاً ما يحتاج إليه المقاتل من لوازم بالمجّان، وذلك «تلبية لنداء المرجعية، وتقديراً لجهود أبطالنا»، وفق أحد المتطوعين، الذي «يلاحق» مقاتلي «الحشد» في مناطق عملياتهم لتقديم «ما أستطيع تقديمه، عرفاناً وتقديراً لجهودهم».
أما قيادة «الحشد» فـ«تفتخر بمثل هكذا حالات»، بتعبير أحد القياديين، الذي يؤكّد أن تلك المواكب ساهمت في التخفيف من كلفة المأكل، إذ ساهمت بشكلٍ كبير ـــ إلى جانب المواكب الأخرى الخاصّة بالفصائل والتشكيلات المقاتلة ـــ في خفض التكلفة المادية والجهد البشري. المساحات الشاسعة والعدد الكبير للمقاتلين، لا يمكن أن يُلبّى بصورةٍ تامة وبشكلٍ «مركزي»، لذا فإن الأذرع الفرعية، والحالات التطوعية كفيلة بتأمين ذلك، فهي «شريكتنا في النصر على داعش»، وفق أحد القادة.