القلق يؤرق سليمان فرنجية على ما يُحاك للبنان والمنطقة. ما يخيفه أكثر، هو العصبية المسيحية التي يُنفخ في نارها. فالصراخ باسم «الحقوق المسيحية» قد يقضي على آخر الامتيازات.
وديعٌ بيت بنشعي إلى أقصى الحدود. الأشجار والبيت الخشبّي وكل عوامل الطمأنينة بعيداً عن ضوضاء المدن، لا تغيّر بسليمان فرنجية شيئاً، سوى أنه يزداد هدوءاً، والشيب يزداد اشتعالاً في رأسه مع السنوات القاسية.
يذهب ملوكٌ ورؤساء، تسقط هيلاري كلينتون ويربح دونالد ترامب، يصالح غالبية العرب إسرائيل، تجتاح العصبيّات المذهبية والطائفية شرق المتوسّط، ويبقى سليل آل فرنجية حليفاً لسوريا والمقاومة، من دون أن يكون عدوّاً لأميركا أو السعودية.
لو طغت الأنانية الفردية و«سوء التقدير السياسي» عند رئيس تيّار المردة، لكان فرنجية رئيساً للجمهورية اللبنانية منذ عامٍ على الأقل، في لحظة مفصليّة من تاريخ لبنان والشرق.
لكنّ نائب زغرتا آثر التمسّك بعهده، بأن لا يشارك في جلسة لمجلس النّواب لا يحضرها نواب حزب الله، حتى ولو كانت نتيجتها انتقاله إلى قصر بعبدا. لم «يبِع» فرنجية حلفاءه موقفه هذا، بل أبلغه للرئيس الفرنسي السابق فرنسوا هولاند، في الاتصال الشهير الذي أجراه الأخير معه، بعد ترشيح الرئيس سعد الحريري له.
دفع فرنجية ثمن مواقفه على الأقلّ مرتين كرمى لـ«الخطّ»، مرّة في 2004 عشية التمديد للرئيس العماد إميل لحّود، ومرّة عشية انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، بعد أن دفع والده الشهيد طوني فرنجية دماً ضريبة مواجهة التقسيم في الماضي.
هل أنت نادم؟ «لا». الجواب قطعي. لكن آخرين كثراً يندمون. على الأقل، أولئك الذين انهالوا عليه بالاتهامات والتجريح. أحد السياسيين قال بعد مقابلة فرنجية مع الزميل ماسيل غانم قبل أسبوعين، «الله يسامحنا»... فعلاً.
القَلَق يؤرِقُ سليمان فرنجية. مع أن الظروف تجعل من دور رئيس المردة أساسياً وضرورياً في المرحلة المقبلة على المستوى الشخصي، وكثرٌ باتوا يرون وجوده حاضنة سياسية لخطاب «مسيحي» وطني ومعتدل، وآخرون يرون فيه ملجأ في مواجهة عقلية الإلغاء المتجدّدة. إلّا أن «المهوار» الذي قد يواجهه لبنان والمسيحيون (بوصفهم جزءاً من مسيحيي المشرق وليس في جزيرة معزولة) هذه المرّة، بالنسبة إليه، أخطر بكثير من حافة الهاوية التي وقف المسيحيون عندها في الحرب الأهلية ونهاية الثمانينيات مع تجذّر «الانعزال» في المارونية السياسية.
«المهوار» الجديد متعدّد الأوجه. ما يصيب المنطقة قد ينعكس وبالاً على لبنان وعلى مسيحييه خصوصاً، أوّلاً بسبب التكفير وثانياً إذا ما تحوّلت العصبية المسيحية المستجدّة إلى محرّك للعصبيات الإسلامية، سنيّة كانت أم شيعية في الكيان الصغير. وثالثاً، في النظام السياسي اللبناني، فمصطلح «الحقوق المسيحية» فضفاض إلى درجة أن المطالبة بصلاحيات للمسيحيين اعتبرها المسلمون في الماضي مجحفة، قد تكون سبباً في خسارة «الامتيازات» الحاليّة، خسارة لا تضاهيها تلك التي أعقبت الحرب الأهلية في اتفاق الطائف، يوم كان المسيحيون يملكون فائض قوة، بما لا يقارن مع القدرات والعدد اليوم. وما يخاف منه فرنجية، حقّاً، هو أن المعارك تُخاض بالقوى الصغيرة، ثمّ تأتي التسويات الدولية، لترضي القوى الكبيرة.
يسجّل لفرنجية أنه زعيم على مقياس «الميثاق الوطني اللبناني» الذي لا يزال اللبنانيون، حتى الآن، يعودون إليه بوصفه المرجع، فرفض دائماً أن يكون ممثّلاً لطائفة وإن ارتضى أن يكون ممثّلاً لمنطقة، فيقدّم خطاباً «مسيحياً» من خلفية وطنية، يدفع بالمسلمين إلى المواطنة، فيما يرفع آخرون خطاب العصبية المسيحية، التي تدفع المسيحيين والمسلمين معاً نحو الغيتوهات الطائفية والمذهبية.
ابتدع فرنجية ظاهرة أخرى، حين قَبِل أن يكون رقم «اثنين» خلف رئيس تكتل التغيير والاصلاح العماد ميشال عون وقتها، وهي حالة نادرة عند الساسة الموارنة، لم يقدر عليها حتى جدّه الرئيس الراحل سليمان فرنجية. أمرٌ آخر جدير بالذكر، ارتباط فرنجية بسوريا من خلفية العمق العربي السوري للبنان ومسيحييه والعداء لإسرائيل، هو الوجه الحقيقي للمسيحيين اللبنانيين في جبل لبنان وفي الأطراف، حيث يعانون البُعد والقهر، بينما ينتحل من ينتحل صفة تمثيل المسيحيين، وهو يحاكي جزءاً من عقلية المسيحيين في جبل لبنان.
وإن كان الآباء الموارنة المؤسسون للبنان، قد تباهوا طويلاً بأنهم «أنتجوا دولة فيها قدر من الحريّة والانفتاح تتفوّق على دول المحيط»، فإن فرنجية وأمثاله، يساهمون في بقاء لبنان مساحةً للحرية والانفتاح، وليس نموذجاً فاشلاً عن الدولة اليهودية التي تقوم على أرض فلسطين، أو الكانتون الكردي الممتدّ من شمال العراق إلى شمال سوريا. والوقوف مع دعم حقّ عودة الفلسطينيين إلى فلسطين وعدم الاعتراف بإسرائيل هو الردّ على مشاريع التوطين الفلسطيني، والوقوف إلى جانب الدولة الشرعية السورية هو الرّد الحقيقي على مشاريع توطين النازحين السوريين في لبنان.