لا شيء أسوأ وأسخف من الجهل، إلا الجهل المركب. الأول ظاهرة مفهومة، ترتبط في معظمها بنقص في المعلومات، أو نقص في القدرة على الربط والتحليل. أما الجهل المركّب، فصاحبه يجهل الشيء، ويجهل أنه جاهل به.
الجمع بين الأول والثاني يصنع منتجاً هجيناً من الجهلين: محللو الشؤون العربية في الإعلام الإسرائيلي. هؤلاء، في معظمهم، يدركون جهلهم المركَّب، لكنهم في الوقت نفسه، يتماهون معه وينمّونه ويركّبون عليه تحليلات وتعليقات مبنية على الرغبة والتمني. تماماً كما هم كتّاب السفارة الأميركية في بيروت. الهدف مشترك: كل ما يتعلق بحزب الله والمقاومة.
مصاديق الجمع بين الجهلين كثيرة في الإعلام العبري. من بينهم، وربما في مقدمتهم، الكاتبة في صحيفة يديعوت أحرونوت، سمدار بيري، التي تُعَدّ «الخبيرة الإسرائيلية في الشؤون العربية»... والتي لا يضر معها الجهل والتجهيل والكذب والتحريف، ما دام يحقق النتيجة المرجوَّة: شيطنة حزب الله.
في العادة المتبعة لدى متابعي الشأن الإسرائيلي، يكتفون بقراءة جملة أو اثنتين من كتابات سمدار بيري، يبتسمون، ثم ينتقلون لقراءة ما هو مفيد. لكن من حق القارئ العربي، واللبناني تحديداً، أن يشارك في الابتسامة، وأن يحيط بجهالة القوم، وتجهيلهم.
في ملحق يديعوت أحرونوت، أمس، نشرت بيري مقالة مليئة بالتحريف عن الضاحية وحزب الله والسيد حسن نصر الله. جاءت إلى جانب تقرير نقولا مطران لحساب وكالة رويترز. وهو التقرير الذي أراد إيضاح حقائق مغلوطة عن الضاحية الجنوبية لبيروت، ودحض جملة مغالطات حولها. لكن الكاتبة، «الخبيرة بالشأن اللبناني والعربي»، لم تفهم من تقرير رويترز إلا نتيجة واحدة معدة مسبقاً: نصر الله لم يعد هناك. في إشارة منها إلى الضعف والتراجع وفقدان الشعبية، مع سلسلة تحريفات، سنورد جزءاً منها.
كيف توصلت الكاتبة إلى هذه النتيجة؟ نقولا مطران جال في الضاحية، وتبين له واقع مغاير لما كان ينتظره، ويقول في تقريره بأسلوب يعبِّر عن المفاجأة والصدمة: في الضاحية أغلب الفتيات غير محجبات، بل يلبسن بنطال جينز، بل وأيضاً «تي شيرت»، كذلك فإن رجال الأمن يتجولون في زي مدني بلا أسلحة ظاهرة، وتوجد زحمة سير، والمحال التجارية موجودة بكثرة، بل يوجد ــ للمفارقة ــ محلات ذات ماركات عالمية، مثل بيتزا هوت ونايكي وأديداس، بل تصوروا، كما يرد في التقرير، أن هناك شققاً تزيد مساحتها على 150 متراً مربّعاً، ومنها ما يبلغ سعرها أكثر من 400 ألف دولار.
معطيات «صادمة» لبيري، ولقرائها. فمعقل حزب الله، الذي يجب أن يكون ــ بحسب الصورة النمطية المرادة لحزب الله ــ شبيه بمناطق سيطرة «داعش» ومدن ما قبل الجاهلية: رجال بزي عسكري يحملون السلاح يرسلون ذقونهم حتى الرقبة، يعنفون المارة ويؤنبونهم، فيما النساء متواريات أو يرتدين البرقع بلا وجوه، والمحلات تبيع حصراً الكتب الدينية والملابس السوداء. أما وسائل النقل، فهي البغال والحمير وليس السيارات، التي توقف عندها التقرير طويلاً، متفاجئاً من هذه الظاهرة، الموجودة، للمفارقة، في معقل حزب الله.
لكن ذلك لا يعني، من منظور بيري، أن الصورة النمطية عن حزب الله وبيئته هي خاطئة ومشوهة، بل يعني مزيداً من التجهيل والمكابرة. من جهة الكاتبة، هذه الظواهر في الضاحية تعني أن حزب الله قد انتهى. فتاة غير محجبة في الضاحية، وشاب يلبس بنطال جينز، بل إن محلاً تجارياً بماركة نايكي، تصوروا ذلك! هذا يعني فقط أن حزب الله قد انتهى.
الجهل والتجهيل، ليسا مقتصرين على الكاتبة. قبل سنوات قليلة، صدر عن رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، تصريح يصف فيه واقع الإيرانيين المأزوم في ظل الحكومة الإسلامية «الظلامية»، التي وصل بها الحال إلى حد منع لبس الجينز! في حينه، لاقت ملاحظة نتنياهو السخرية والازدراء من قبل عامة الإيرانيين، وكانت محل تعليقهم عن جهل وتجهيل رأس الهرم في إسرائيل. لذا، لا ريب، أو مشكل، إن كان هذا الجهل مرتبطاً بكاتبة في صحيفة عبرية، رغم ادعائها الخبرة في الشأن العربي.
لنشرك القارئ العربي بعيِّنات من التقرير، ولنسبِّب ابتسامة. قبل أشهر، أو أسابيع، يطل الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، مساء كل اثنين، في مجمع المجتبى في الضاحية الجنوبية، ويلقي كلمة من على شاشة، على الحاضرين. الكلمة، كما هو معروف، دينية سلوكية، ونادراً ما يتعرض لشؤون سياسية أو غيرها. لكن، في تقرير يديعوت أحرونوت، يرد الآتي:
«منذ ثلاث سنوات! يطل نصر الله كل صباح اثنين! الساعة الثامنة والربع صباحاً!، ليعطي دروساً لتلاميذ من صف السادس إلى الصف التاسع!!.. محل ذلك في ساحة الشهداء في الضاحية، حيث يصطف التلاميذ جالسين عبر الشارع على كراسي بلاستيكية بيضاء، ليخطب فيهم نصر الله مدة ساعة كاملة، ويتحدث عن أخبار لبنان خلال الأسبوع الفائت، والقتال في سوريا، والصراع في فلسطين، ويشجعهم على الانضمام إلى صفوف مقاتلي حزب الله!! لكن المهم، في خطابات نصر الله (كما يرد في الصحيفة) أنه يعمد أمام هؤلاء المراهقين، على تبديد مخاوفهم، واعداً إياهم بأن لا أحد سينتزعهم من الشارع، ويفرض عليهم بالقوة الانضمام إلى حزب الله وإرسالهم للقتال في سوريا ضد إرادتهم»!!!
يرد في المقالة أيضاً: «على عكس التوقعات، (تصوروا هذه المفاجأة) الشوارع الرئيسية في الضاحية نظيفة، بل زرعت على جوانبها أشجار، وهناك طرق واسعة، بل وأيضاً إشارات مرور. أيضاً هناك أربع إشارات مرور في شارع واحد، وهو شارع مركزي: الطريق السريع في الضاحية، المسمى بهادي نصر الله».
كذلك يرد أيضاً: «تتناثر الشاشات في شوارع الضاحية، التي تنقل بين الحين والآخر إطلالات الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله! (وهي كما هو معروف غير موجودة) لكن في المقابل، الشاشات الأكثر شعبية هي شاشات المقاهي التي خصصت لنقل النشرات الإخبارية، لكن في الغالب يشاهدون من خلالها مباريات كرة القدم، وفي هذه الأيام، الحشد الأكبر يكون لمشاهدة مباريات الدوري الإسباني».
في مقطع آخر، يُسأل أحد السكان عن تعداد المقيمين في الضاحية، فيجيب: «لا توجد بيانات دقيقة عن عدد سكان الضاحية. ويختلف ذلك باختلاف الأخبار. وفقاً للمعلومات، حتى قبل عام، كان يعيش هنا 800 ألف، وهو عدد يتغير صعوداً ونزولاً، ربطاً بالخوف من المواجهة العسكرية مع إسرائيل، وكذلك من تدفق اللاجئين من سوريا»!
كما هو معروف، تعد الضاحية من أكبر الأسواق التجارية في لبنان، بلا جدال. تسارع الشركات اللبنانية منذ سنوات لافتتاح فروع لها في شوارعها، كذلك تكثفت فروع المصارف على اختلافها، نتيجة للحركة التجارية المتنامية فيها. مع ذلك، من جهة التقرير المنشور في يديعوت أحرونوت، «الوضع الاقتصادي سيئ جداً في الضاحية، بلا زبائن وبلا عملاء، ومنهم من حوّل تجارته التي كانت مزدهرة سابقاً، إلى محل لبيع منتجات «وان دولار»»... وكل ذلك، بسبب حزب الله، والحواجز المحيطة بالضاحية…
أيضاً يرد في التقرير: «ملابس النساء تختلف تبعاً للشريحة الاجتماعية والاقتصادية في الضاحية. في مخيم اللاجئين في برج البراجنة، يُغطى الجسد من الرأس حتى أخمص القدمين، لكن في منطقة الغبيري، ترى الوجوه والشعر الذي يتمايل مع الريح، وكذلك الجينز الضيق والقمصان الضيقة، بل وأيضاً أحذية نسائية مع كعب عال (!) وأخيراً دارت معركة مستعرة في لبنان، وافقت في أعقابها الحكومة اللبنانية على إعفاء المغتصبين من السجن، شرط أن يتعهدوا بالزواج بضحاياهم».
بحسب سمدار بيري، هذه المعطيات تعني نتيجة واحدة، وهي العنوان الذي عنونت به مقالتها: «نصرالله لم يعد هنا»!