في جوانب الأزمة الكبيرة القائمة في سوريا والعراق، يتجنّب كثيرون من أبناء بلادنا كما الأطراف المنخرطة في المعركة، الحديث عن البعد الجوهري لما يجري... وهو المتصل بالبعد الجديد لحركة المقاومة ضد الاحتلال والنفوذ الأميركي في المنطقة، وضد الاحتلال الإسرائيلي لأراضٍ عربية.

هذا الكلام لا يعني أنّ جدول أعمال خاصاً بالشعوب في هذه الدول يجب أن يهمل تماماً، لكن لعبة الأولويات تجعل الناس في هذه المنطقة يلتفتون ولو متأخرين، إلى أن ما تلقَّوه من دعم مفاجئ وكبير من جانب الأميركيين والغربيين وحلفائهم، لا يستهدف تطوير حياتهم كبشر بقدر ما يستهدف تغيير طبيعة الحكومات القائمة وسلوكها، وهدف هؤلاء، لن يكون أبداً في تعزيز حقوق المواطن، بل في قمع أي محاولة للتمرد على النظام العالمي المستعمر لبلادنا والناهب لثرواتنا.
بالتالي، ومن دون البقاء أسرى النقاش – غير المجدي للأسف – حول طبيعة الأزمة القائمة وخلفيتها، فإنّ المشترك الفعلي بين القوى المتنازعة والأكثر حضوراً على الأرض، هو الصراع على الدور الاستراتيجي لهذه المنطقة، لا في رسم مستقبل الشرق الأوسط وحسب بل في وضع قواعد جديدة للنفوذ العالمي في منطقتنا. وهذا ما يجب أن يقودنا صراحة إلى مقاربة المرحلة الحالية من الصراعات الهائلة القائمة في العراق وسوريا، والمعارك الأقل سخونة الجارية في فلسطين ولبنان.
مكابر إن لم يكن أكثر، من يريد تجاهل حقيقة التبدّل الجوهري للصراع مع الأميركيين وإسرائيل بعد حرب تموز عام 2006. يومها لم يتعطل المشروع الأميركي ــ الإسرائيلي فحسب، بل جرى تثبيت جدوى خيار المقاومة. وهو ما فرض على قوى محور المقاومة وحكوماته الانتقال إلى مرحلة جديدة من التخطيط والعمل. لذلك، كان متوقعاً أن ينتقل العدو إلى مرحلة أخرى. وبناءً عليه، يمكن الجزم بأنَّ الحرب على سوريا تستهدف دورها المحوري في «هلال المقاومة». فهي أولاً، الحاضن الحقيقي لا الشكلي، للمقاومتين اللبنانية والفلسطينية، وتشكّل ثانياً المجال الحيوي لكل منهما. ثم إن سوريا تمثّل واسطة عقد محور المقاومة الممتد من طهران إلى حزب الله في لبنان. وفوق ذلك، باتت سوريا مزوّداً للمقاومة في جزء مهم من ترسانتها العسكرية، وبعضها ذو طابع استراتيجي.
لذلك، شهدنا جولات كثيرة منذ ست سنوات إلى الآن، ولذلك أيضاًَ كان طبيعياًَ انخراط كل أطراف محور المقاومة في المعركة، كما كان طبيعياً العمل بقوة استثنائية على إبعاد قوى المقاومة الفلسطينية عن هذه المعركة. والحاصل اليوم، أن الجميع أقرّ بصعوبة إسقاط النظام في سوريا. كل ذلك، جعل العدو ينتقل إلى مرحلة تعطيل وظيفية الحكم السوري على صعيد المقاومة في المنطقة. وكان التركيز في الآونة الأخيرة على إبعاد سيطرة الجيش السوري عن الحدود العراقية، نظراً إلى اقتناع الأميركيين والإسرائيليين وحلفائهم من العرب بأن حصول تواصل عراقي ــ سوري على المقاطع الحدودية من شأنه أن يكرّس معادلة الهلال المقاوم ابتداءً من طهران وصولاً إلى لبنان وفلسطين.

من هنا، جاءت الاستراتيجية الأميركية الجديدة التي ركّزت في الأشهر الأخيرة على محاولة فرض سيطرتها ــ حيث تستطيع ــ على طول الخط الحدودي بين البلدين. ومن خلال وجهة تترك السيطرة للفصائل الكردية و«قوات سوريا الديموقراطية» في الشمال السوري، والعمل على مساعدة الفصائل المسلحة المحسوبة على أميركا أو غرفة «الموك» في الجنوب الشرقي للسيطرة على المنطقة الممتدة جنوباً حتى معبر التنف. وهو أمر ترافق مع دعم أميركي واضح ومباشر للمجموعات المسلحة في مواجهة تقدم الجيش السوري وحزب الله في المنطقة الجنوبية، بالتزامن مع فرض «فيتو» على مشاركة «الحشد الشعبي» العراقي في معارك الموصل ورسم خطوط حمراء أمامه تمنعه من التقدم باتجاه تلعفر وغربها.
لكن الذي حصل فعلياً، هو أن قوات «الحشد» وصلت إلى الحدود في منطقة أم جريص (غربي القيروان، وجنوبي جبال سنجار)، ما يعدّ عملياً تجاوزاً واضحاً للخطوط الحمر الأميركية، وبما يسمح بفرض معادلة جديدة تقوم على فرض السيطرة على مقاطع من الحدود رغماً عن الإرادة الأميركية.
ويكفي هنا القول إنّ تمكّن قوى محور المقاومة (المتمثلة في «الحشد» عراقياً، والقوات السورية وحزب الله) من السيطرة على مقاطع حدودية إضافية، حتى يُكسَر الهدف الأميركي بإقفال الحدود، ما يجعل أي سيطرة أميركية على بقية الحدود أمراً عديم الجدوى.
عملياً، يمكن القول بأن ما حصل في الشمال، وبرغم أن المسافة التي يسيطر عليها «الحشد» تقلّ عن 15 كلم، فإنها الخطوة الأولى التي تفتح المعابر الاستراتيجية البرية بين أطراف محور المقاومة.
هذا يعني من الناحية العملية تقويض لكل الاستراتيجية الأميركية الرامية إلى منع التواصل السوري ــ العراقي، وبالتالي فإنّ السيطرة على مقاطع حدودية بين البلدين وتحقيق الوصل الجغرافي البري بين بغداد ودمشق، تعني استراتيجياً إسقاط كل المفاعيل التي جرى الرهان عليها للحرب السورية، والمقصود تلك المتعلقة بإسقاط الدور الوظيفي للنظام السوري على مستوى محور المقاومة.
ما هو متوقع في المرحلة المقبلة، يمكن أن يفتح الباب على مفاجآت كبيرة. إذ بالرغم من الانتشار العسكري الأميركي المباشر، فإنّ المواجهة لم تحسم جنوباً مع وصول الجيش السوري وحزب الله إلى مسافة تقلّ عن 80 كيلومتراً من معبر التنف، خصوصاً أنّ أسبوعاً واحداً كان كفيلاً بطرد «داعش» من مساحة 9000 كلم مربع في كل المنطقة التابعة لبادية حمص، وحيث تعرضت مجموعات التنظيم لهزيمة غير مسبوقة، ولا سيما أنها خلّفت وراءها كمية هائلة من الأسلحة المتوسطة والثقيلة.

من جهة ثانية، هناك لعبة عضّ أصابع جارية مع الأميركيين الذين يحاولون فرض واقع ثابت، يقول بمنع محور المقاومة من الاقتراب من هذه النقاط، وفق قواعد يجري تثبيتها حتى مع الجانب الروسي، الذي ربما لا يريد من حلفائه في سوريا التقدم صوب مواجهة الاميركيين على طول المقطع الجنوبي من الحدود مع العراق، لكن دون تخلي موسكو عن دورها في مساعدة الجيش السوري على إنهاء وجود «داعش» في كل هذه المنطقة.
هدف قوى المقاومة في منع إسقاط الحكم في سوريا تحقق، وهدف هذه القوى في محاصرة المجموعات المعادية يتحقق يوماً بعد يوم، أما هدف فتح ثُغَر كبيرة على طول الحدود مع العراق، فهو دخل مرحلة التنفيذ، وليس متوقعاً أن تتراجع قوى المقاومة عن توسيعه وتثبيته وحمايته مهما كلّف الأمر، ما يقود إلى تذكير الجميع بأنّ قواعد العمل في سوريا أو العراق لا تزال محكومة بتوافقات تشمل جميع الأطراف. وبالتالي نحن أمام احتمال كبير بأن تقع المواجهة المباشرة والفعلية بين حلفاء سوريا من حزب الله أو قوات الحرس الثوري، والقوات الأميركية إذا قررت الانخراط مباشرة في المعركة إلى جانب المجموعات المسلحة. وبالنظر إلى خلفية القرار عند حلفاء سوريا، يجب التعامل مع الاحتمال بجدية كبرى، ما يشير إلى شكل جديد من المواجهة في سوريا وربما خارجها...

المصدر: ابراهيم الأمين - الأخبار