مستشفى الجامعة الاميركية في بيروت هو نموذج عن القوة الفائقة التي تتمتع بها المستشفيات؛ فبعد أن تجرّأت إدارة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وفرضت إجراءً عقابياً متواضعاً ضده، قضى بتعليق تسديد السلف المالية له، بسبب مخالفاته للعقد الموقّع مع الصندوق، عمد المستشفى الى ممارسة الضغوط لحمل إدارة الصندوق على التراجع عن هذا الإجراء، من دون أن يتعهد المستشفى، في المقابل، بالكفّ عن إذلال المضمونين على أبواب الطوارئ ومكاتب الدخول، والتراجع عن المخالفات التي تحرم فئات منهم من حقهم في الاستشفاء وتكبّد فئات أخرى أكلافاً باهظة غير مستحقة. 
تفيد المعلومات بأن المدير العام للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، محمد كركي، في صدد التراجع عن قراره رقم 309، الذي أوقف به دفع السلفة الماليّة الشهريّة لمستشفى الجامعة الأميركيّة، وذلك بعد أن أفضت الاجتماعات بين الطرفين إلى «تسوية» فرضتها إدارة المستشفى، لا تتضمن أي معالجة جذرية لشكاوى المضمونين وفقاً لما ينص عليه العقد الموقع بينهما، بل تتضمن ما اقترحته إدارة المستشفى منذ البداية لجهة استعدادها لمعالجة كلّ حالة فردية على حدة، بعد ورودها من الصندوق والتحقيق فيها، ما يعني، بحسب مصادر في الصندوق، أن المستشفى لن يلتزم بموجبات العقد إلا إذا استجابت إدارة الصندوق لمطالبه القديمة برفع أسعار التعرفات والاعمال الطبية.

وكان المدير العام للصندوق، محمد كركي، قد اتخذ القرار رقم 309، في 8 أيار الماضي، أوقف بموجبه دفع السلفة الماليّة الشهريّة المستحقّة لمستشفى «الجامعة الأميركيّة»، والبالغة نحو 3 مليارات و300 مليون ليرة لبنانيّة. هذا القرار الذي تعتبره مصادر في الضمان مُخفّفاً، كونه لم يلغِ العقد الموقّع مع المستشفى واكتفى بتعليق دفع السلفة الماليّة فقط، ارتكز على كتاب موجّه من رئيس نقابة موظّفي الضمان ورئيس وحدة المراقبة الإداريّة على المستشفيات في بيروت الكبرى، حسن حوماني، صدر على إثره تقرير عن «مصلحة المراقبة الإداريّة على المستشفيات»، يوثّق المخالفات المُرتكبة من المستشفى خلافاً لقوانين الضمان وأنظمته وللعقد النموذجي الموقّع مع المستشفى.

بداية «الاشتباك»

منذ نحو ثلاثة أشهر، وجّه حوماني كتاباً مفتوحاً إلى رئيس وأعضاء مجلس إدارة «الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي» ومديره العام، ورئيس مصلحة المراقبة الإداريّة على المستشفيّات، تحدّث فيه عن «الإذلال والإهانة» اللذين يتعرّض لهما المضمونون في أقسام المستشفى، وخصوصاً في قسمي الطوارئ والدخول، بما يتعارض مع آداب المهنة الإنسانيّة، وكلّ ذلك بعلم من إدارة المستشفى «التي لا تكترث للإنذارات الموجّهة اليها». كذلك عرض الكتاب المخالفات التي تمارسها إدارة المستشفى بحق المستفيدين من تقديمات الصندوق، خلافاً لقانون الضمان والأنظمة الطبيّة والعقد الموقّع مع الضمان.
بادرت «مصلحة المراقبة الإداريّة على المستشفيات» الى إجراء تحقيق، من خلال المراقب الإداري التابع لها في المستشفى، واتخذت إجراءً أوّلياً يقضي بعدم التوقيع على المعاملات المخالفة، وطالبت إدارة المستشفى بردّ الفروقات الماليّة التي تزيد على نسبة مساهمة المضمون (أي عن 10%)، كما طالبت بتطبيق المادة 64 من النظام الطبيّ لناحية إلزاميّة تسليم المضمون نسخة عن كشف الحساب عند خروجه من المستشفى. تزامن ذلك مع عقد اجتماعات مع إدارة المستشفى تم الاتفاق خلالها على إيقاف المخالفات وتطبيق بنود العقد كافة. لكن إدارة المستشفى لم تفِ بالتزاماتها وبقيت الأمور على حالها، «مُمعنة في رفض استقبال بعض المضمونين بحجة أن إجراء الأعمال الطبيّة بتعرفة الصندوق هي عمليّة خاسرة لا يستطيع المستشفى تحمّلها، خلافاً لنظام السلف والعقد المبرم معه»، بحسب ما ورد في تقرير المصلحة.

المخالفات الموثّقة

المخالفات المرتكبة، لخّصها كتاب حوماني وتقرير «مصلحة المراقبة الإداريّة على المستشفيات» في «الضمان الاجتماعي»، بالآتي:
1ــــ تقاضي مبالغ تأمين مسبقة من المضمونين قبل دخولهم ودون انتظار الخروج لتحديد مساهمتهم الفعليّة من فاتورة الاستشفاء، وكذلك فرض إدخالهم على درجة أعلى من درجة الضمان بعد تعمّد أخذ إقرار موقّع منهم يوحي بأنهم هم من طلبوا إدخالهم إلى درجة أعلى، وذلك خلافاً للمادة الخامسة من العقد التي تمنع المستشفى من تقاضي أيّ مبلغ مُسبق على سبيل التأمين من المستفيد، وأن يعتبر حساب قسم الطوارئ داخلاً في حساب الاستشفاء، ويلزم المستشفى باستقبال المريض المستفيد ومعالجته في الدرجة الأولى من دون تقاضي أيّ فروقات ماليّة في حال عدم توافر سرير في درجة الضمان. وكذلك خلافاً للمادة 12 من العقد التي يتعهّد فيه المستشفى بتأمين استشفاء مستخدمي الصندوق من دون أي صعوبات ومن دون تقاضي أيّ فروقات، بما فيها نسبة مساهمتهم القانونيّة التي تبقى على عاتق الصندوق.
2ــــ عدم إعطاء المضمون كشف حساب بعد توقيعه على الخروج من المستشفى وتقاضي فروقات ماليّة تتجاوز أضعاف نسبة مساهمته القانونيّة (10%)، خلافاً للمادة 6 من العقد التي تنصّ على تسليمه نسخة عن كشف الحساب وإيصالاً بالمبلغ المدفوع من المضمون.
3ــــ عدم معالجة مرضى الضمان من الأطباء وتسليمهم لطلاب الاختصاص خلافاً للمادة 7 من العقد التي تلزم جميع العاملين في المستشفى والمتعاقدين معه بمعالجة مرضى الضمان بحسب التعرفات المقرّرة منه ومن دون تقاضي أيّ فروقات ماليّة تحت طائلة استردادها وفسخ العقد، على أن يكون الطبيب المُعالج هو المسؤول الوحيد عن معالجة المريض ورعايته، وأن لا تقبل معاينة المريض أو معالجته من الأطباء الذين هم في المرحلة التعليميّة (Residents) إلّا إذا أجازها الطبيب المُعالج وتمّت تحت إشرافه وعلى مسؤوليته ودون تسجيل أي أتعاب لهؤلاء، وكذلك خلافاً لقانون الضمان والآداب الطبيّة الذي يعطي المضمون حقّ اختيار طبيبه.
4ــــ رفض الموافقات المُعطاة من الضمان للمرضى المضمونين الذين تجرى لهم عمليات تفتيت حصى وتقاضي كامل الفاتورة منهم خلافاً للمادة 7 من العقد.
5ــــ عدم احترام التعرفات المُحدّدة من الضمان، والامتناع عن إجراء بعض الأعمال الطبيّة بحجّة استعمال أدوات طبيّة لا تتناسب أسعارها مع تعرفات الضمان، وتقاضي فروقات من سائر المضمونين وفقاً لأسعار مُحدّدة من المستشفى خلافاً للمادة الثامنة من العقد التي تلزم المستشفى بالتقيّد بالتعرفات المُعتمدة والمقرّرة من الضمان وفقاً للأصول المنصوص عليها في النظام الطبيّ، مع تحريم تقاضي أيّ فروقات تفوق النسبة الواجبة على المريض، باستثناء النفقات التي لا يغطّيها الضمان، وهي إقامته في درجة أعلى بناءً على طلبه الخطّي، المخابرات الهاتفيّة ووجبات الطعام لمرافقيه، على أن يتم إعلامه بذلك مُسبقاً.

التسوية المطروحة

تكشف مصادر في الصندوق أن الواقع في المستشفى بعد صدور قرار تعليق السلفة الماليّة، «ما زال على حاله، وما زال المستفيد من تقديمات الضمان يدفع فروقات لا تقل عن عشرات الملايين بالليرة اللبنانيّة، ويفرض عليه الدخول ضمن درجة أعلى من درجة الضمان بحجة عدم وجود أسرّة شاغرة، ويتعرّض لشتى أنوع الذل والإهانة على أبواب «الجامعة الأميركيّة». وتشير المصادر إلى «ضغوط تمارس على الضمان لإلغاء قرار وقف السلفة، مقابل معالجة الشكاوى استنسابياً، أي التعامل مع كلّ مشكلة على حدة، واستعداد المستشفى لمعالجة المخالفات من دون تقديم أي التزام بذلك، خلافاً للعقد المُبرم، الذي يصنّف في خانة «عقود الإذعان»، التي لا يمكن للمتعاقد أن يناقش بنودها بل تجيز له «قبوله أو رفضه فقط».
تشير المصادر الى أن المفاوضات الأخيرة بين الصندوق والمستشفى أسفرت عن اتفاق على تشكيل لجنة لدراسة النقاط الخلافية، إلا أن كركي رفض ذلك، لأن المستشفى يريد أن يناقش في أسعار وتعرفات الاعمال الطبية والاستشفائية.
يقول كركي في اتصال مع «الأخبار» إنّ من غير المنطقي تشكيل لجنة خاصّة عند وقوع أيّ مشكلة مع أيّ مستشفى، مشيراً الى أن إدارة الصندوق عقدت اجتماعات عدّة مع المستشفى بهدف ضمان الالتزام بالعقد وبتعرفات الضمان الاجتماعي، و«سأجتمع بإدارة المستشفى يوم الثلاثاء لختم الصفحة، بعد أن أدرك ضرورة التعاون معنا».
ينفي كركي وجود أيّ ضغوط تمارس عليه للتراجع عن قرار تعليق السلف من دون إلزام المستشفى بأي مقابل، مشيراً إلى أن «الأمور تتجه نحو نهاية إيجابيّة، وأن المستشفى عاد ليستقبل المرضى وفقاً للعقد المبرم مع الضمان بحسب ما وصله من رئيس مصلحة المراقبة الإداريّة على المستشفيات». حاولت «الأخبار» التواصل مع إدارة المستشفى لكن من دون نتيجة. إلا أن النائب السابق إسماعيل سكريّة الذي دخل على خطّ التفاوض بين الضمان والمستشفى، أشار إلى أن «الاجتماعات أفضت إلى التوصل إلى اقتناع لدى الطرفين بحل هذه المشكلات المتراكمة منذ سنين وانفجرت مؤخراً، وتم التوصل إلى اتفاق شبه نهائي بإدخال المرضى المستفيدين من تقديمات الضمان بدرجة الضمان في حال توافر أسرّة، وإذا لم يكن هناك ما يستلزم عكس ذلك من تدخلات وإجراءات طبيّة، إضافة إلى تعهّد الضمان بإعادة النظر في التعرفات، خصوصاً أن هناك الكثير من التدخّلات الطبيّة المكلفة التي يجب التعاطي معها على هذا الأساس».
تقول مصادر الصندوق إن شرط «إذا توافرت أسرّة» هو الشرط نفسه الذي تحجّجت به إدارة المستشفى دائماً لإهانة المضمونين والامتناع عن تقديم الاستشفاء لهم ودفعهم الى القبول بتسديد مبالغ إضافية عن تعرفات الضمان، ما يعني، برأي هذه المصادر، أن المشكلة باقية كما كانت.

حلول بعيدة المنال!

«المشكلة الأساسيّة في حالات مماثلة يتحمّلها الضمان على المستوى الأوّل»، بحسب وزير الصحّة الأسبق محمد جواد خليفة، «كون هذه المؤسسة لا تتابع مرضاها عند دخولهم إلى المستشفيات ولا تراقب العمل فيها، إذ ان هناك مخالفات كثيرة ترتكب في كلّ المستشفيات، لا يمكن تغطيتها أو التسامح معها. أمّا الحلّ الذي لم ينجز يوماً فيكمن في الاتفاق مع المستشفيات الجامعيّة، حيث كلفة العناية الطبيّة أغلى، حول صيغة موحّدة تحفظ حقوق المريض والمستشفيات، أولاً من خلال تحديد الحالات التي تستوجب علاجاً في هذه المستشفيات بما يناسب قدرات الضمان الاجتماعي، على أن يكون علاج الحالات الأقل خطورة في مستشفيات أخرى مخوّلة تقديم هذه العناية الطبيّة. وثانياً من خلال إحالة الضمان بنفسه المضمونين الذين يحتاجون إلى تدخلات طبيّة دقيقة إلى هذه المستشفيات بما يضمن حقوقهم».

1100 حالة استشفاء

يستقبل «الجامعة الأميركيّة»، شهرياً، نحو 1100 مريض مستفيد من تقديمات «الضمان الاجتماعي»، حوالى 700 مريض منهم يعالجون من الأمراض السرطانيّة، أي إن معظمهم يقضون يوماً واحداً على الأكثر في المستشفى، ما يعني أن الأسرّة المشغولة شهرياً تقدّر بنحو 400 مريض، يدخل منهم حوالى 5% عن طريق مستوصف الجامعة الأميركيّة «درجة 3P»، والباقي يجري التحكّم فيهم عن طريق إلزامهم بفرق الدرجة لفرض الأسعار الخاصّة بالجامعة الأميركيّة وليس أسعار الضمان، علماً بأن «الجامعة الأميركيّة»، ومنذ أن حدّد الضمان مواصفات غرفته بـ«سريرين ومساحة لا تقلّ عن 18 متراً مربعاً»، لجأ إلى ابتداع درجتين بين درجة الضمان والدرجة الأولى، وهي 2B-2A، لتبرير تقاضي مبالغ أعلى من أسعار الضمان من المضمونين.

المصدر: فيفيان عقيقي - الأخبار