قبل 24 ساعة من موعد الاقتراع في الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية الفرنسية، تظهر الاستطلاعات أن حزب «تشغيل الجمهورية»، الذي تأسس على أنقاض حركة «إلى الأمام»، مرشح إثر فوز ماكرون بالرئاسة لنيل غالبية المقاعد النيابية. لكن عوامل أخرى قد تقلب المعادلة، إذ رصدت دراسات تحليل اتجاهات شبكات التواصل الاجتماعي نقمة متزايدة بحق الفريق الرئاسي، على خلفية فضائح الفساد ومشاريع القوانين غير المعلنة التي تمسّ حقوق العمال وتحابي الأثرياء وأرباب العمل، ما جعل التوقعات بخصوص نسبة المشاركة في الانتخابات تتراجع إلى 53% فقط
باريس | لم يكن الرئيس الفرنسي الجديد، إيمانويل ماكرون، ليحلم بسياق سياسي وأمني أكثر ملاءمة لخطته الانتخابية الهادفة لنيل الغالبية في الانتخابات التشريعية التي ستجري جولتها الأولى غداً الأحد، فقد أظهرت آخر استطلاعات الرأي أن حزبه، «تشغيل الجمهورية»، سيتصدر المشهد النيابي، في سابقة غير متوقعة بالنسبة إلى حركة سياسية لم تتأسس إلا قبل أربعة أسابيع فقط.
وبيّن استطلاع للرأي، أجرته مؤسسة odoxa، قبيل بدء مرحلة الصمت الانتخابي، أن حزب ماكرون مرشح لنيل 33٪ من الأصوات، مقابل 19٪ لحزب «الجمهوريين» اليميني، و18٪ لـ«الجبهة الوطنية» (اليمين المتطرف)، و11٪ لـ«فرنسا المتمردة» (اليسار الراديكالي بزعامة جان لوك ميلانشون)، و8٪ فقط لـ«الحزب الاشتراكي» الذي كان يحظى بالغالبية في البرلمان السابق. وفِي ظل نظام الاقتراع المعمول به في فرنسا، وفق الغالبية المطلقة المباشرة على دورتين، تشير التوقعات إلى أن من المرجح أن نيل حزب ماكرون ثلث الأصوات سيخوله الفوز بنحو 350 مقعداً نيابياً إلى 390 من مجموع 577، أي بغالبية مطلقة تفوق 60%. بينما سيحل حزب «الجمهوريين» ثانياً بنحو140 مقعداً، و«الاشتراكي» ثالثاً بقرابة 30 مقعداً. ستُحجّم أصوات «فرنسا المتمردة» و«الجبهة الوطنية» بحكم نظام الاقتراع الذي يرجح كفة الأحزاب الكبرى، إذ من المتوقع أن ينال أنصار ميلانشون 20 مقعداً، على أن يكتفي أتباع لوبن بـ10 مقاعد.
هذا الانتصار المعلن سلفاً لـ«الحزب الماكروني» سيشكل، إذا صدقت توقعات الاستطلاعات، سابقة تاريخية في فرنسا، ليصبح «تشغيل الجمهورية» الحزب الأول في البلاد بعد أربعة أسابيع فقط من تأسيسه رسمياً، وبعد أقل من سنة على إطلاق حركة «إلى الأمام» التي مهدت لتأسيس هذا الحزب، وأوصلت ماكرون إلى كرسي الرئاسة.
لكن سحباً سوداً كثيفة تراكمت خلال الأسبوع الأخير لتهدد هذا المشهد الانتخابي المشرق بالنسبة إلى نزيل الإليزيه. بدأ ذلك بفضائح الفساد التي طاولت الرجل الثاني في حزبه، الوزير ريشار فيرون (راجع العدد ٣١٩١ في ٣ حزيران)، والجدل المحتدم الذي أثير بسبب رفض فيرون الاستقالة، وتمسك الرئيس ماكرون به، خلافاً للطهرانية الأخلاقية التي وعد بها إثر تفجر فضائح فيون خلال الحملة الرئاسية.
بعد ذلك، طاولت الفريق الرئاسي فضيحة أخرى ذات طابع سياسي، إذ سربت صحيفة «لوباريزيان» الشعبية الواسعة الانتشار، في نهاية الأسبوع الماضي، وثيقة كشفت فحوى المراسيم الرئاسية التي ينوي ماكرون سنها، من دون العودة إلى البرلمان، وتتضمن مساساً خطيراً بتشريعات العمل، بما يخدم مصالح الأوساط المالية والشركات الكبرى. هذه التسريبات أحرجت الفريق الرئاسي، الذي لم يستطع الطعن بصدقية الوثيقة المنشورة، فلجأ إلى أسلوب ملتوٍ لمحاولة التخفيف من انعكاساتها على السياق الانتخابي، وذلك بإصدار بيان لوزارة العمل قال إن الوثيقة المسربة غير صادرة عن أي مصدر حكومي، بل هي «مسودة عمل» يعود تاريخها إلى 12 أيار الماضي، أي إلى مدة سابقة لتشكيل الحكومة، ما أعطى الانطباع، من دون التزام رسمي واضح، بأن الحكومة صرفت النظر عن المقترحات الليبرالية المغالية التي تضمنتها تلك المسودة.
لكن صحيفة «ليبراسيون» أصابت الفريق الرئاسي في مقتل، حين سربت بعد أربع وعشرين ساعة فقط من ذلك التكذيب الحكومي المقنَّع، وثيقة أخرى بخصوص المراسيم الرئاسية التي يجري الإعداد لها. والوثيقة المؤرخة في 31 أيار الماضي تبين أن ماكرون وفريق مستشاريه لا يزالون متمسكين بما ورد في الأولى بخصوص «إصلاح قانون العمل».
تسريبات «ليبراسيون» كان لها وقع القنبلة، لأنها قدمت دليلاً قطعياً على أن الفريق الرئاسي يمارس «التقية الانتخابية»،عبر التستر على القوانين الليبرالية المغالية التي ينوي سنها، وتأجيل الإفصاح عنها إلى ما بعد معترك الانتخابات التشريعية، خشية أن تنعكس هذه القوانين، التي لا تحظى بالشعبية، سلباً على مخططات الحزب الرئاسي الهادفة إلى كسب الغالبية البرلمانية، وذلك لتفادي بروز معارضة نيابية من شأنها أن تعرقل هذه القوانين، كما حدث مع «قانون ماكرون» الأول، الذي حاولت حكومة مانويل فالس تمريره، في عهد فرانسوا هولاند، لكن الجناح اليساري في «الحزب الاشتراكي»، الذي كان يحظى بالغالبية النيابية آنذاك، عطّل غالبية بنود ذلك القانون.
تسريبات «ليبراسيون» أثارت أيضاً حفيظة النقابات، حتى المعتدلة منها مثل نقابة cfdt الموالية لماكرون، لأن الوثيقة المسربة تعود إلى تاريخ لاحق لاجتماعات التشاور بين النقابات والحكومة الجديدة، وهي اجتماعات لم تبلغ فيها النقابات بمجمل البنود المثيرة للجدل في مشروع ماكرون الجديد لـ«إصلاح قوانين العمل». لكن الهجوم الإرهابي الذي استهدف أحد رجال الشرطة بمحاذاة كاتدرائية نوتردام، الثلاثاء الماضي، لم يلبث أن حوّل اهتمام الرأي العام نحو وجهة أخرى، وخاصة أن الهجوم جاء قبل أقل من أربع وعشرين ساعة على إطلاق جهاز «مكافحة الإرهاب» الجديد التابع لقصر الإليزيه، في مصادفة لم يفوّت ماكرون وفريق مستشاريه الفرصة لاستثمارها إعلامياً وانتخابياً، ما جعل النقاش يرتكز على القضايا الأمنية إلى غاية بدء الصمت الانتخابي.
نجاح الفريق الرئاسي في تحويل وجهة النقاش الانتخابي، وتركيز اهتمام الرأي العام على قضايا الاٍرهاب والهواجس الأمنية، لا يعني بالضرورة أنه استطاع أن ينسي الناخبين فضيحة فساد فيرون وشبهات «التقية السياسية» في ما يتعلق بملف قوانين العمل، فقد رصدت مؤسسة odoxa نفسها، التي أجرت الاستطلاع الأخير الذي يرجح فوزاً كبيراً لحزب ماكرون، موجات متزايدة من النقمة على الرئيس وحزبه على شبكات التواصل الاجتماعي.
في بداية حملة الانتخابات التشريعية، كان حزب ميلانشون متصدراً لجهة استقطاب الاهتمام على شبكات التواصل، بنسبة 20,7%، مقابل 18% لحزب ماكرون. ثم رُصد ارتفاع لافت في الاهتمام بحزب ماكرون، إذ تجاوز 30% خلال فضيحة فيرون، ثم بلغ 42,1$ بعد تسريبات «لوباريزيان» و«ليبراسيون» بخصوص ممارسة «التقية السياسية» لدى الائتلاف الرئاسي بشأن تعديل قوانين العمل.
ارتفاع الاهتمام المتعلق بحزب ماكرون على شبكات التواصل الاجتماعي، بالتزامن مع تلك الفضائح، رأى المحللون أنه مؤشر على وجود نقمة متزايدة لدى الناخبين لم تستطع الاستطلاعات التقليدية رصدها. لكن odoxa لفتت إلى أن هذه النقمة ليست خافية تماماً في استطلاعها الأخير، إذ تُرجمت بتراجع قياسي في نسبة المشاركة المتوقعة، التي يرجَّح ألا تتجاوز 53% فقط، وهي أخفض نسبة مشاركة في تاريخ الجمهورية الخامسة الفرنسية، ما يبين بوضوح أن مشروع ماكرون لا يحظى بتأييد وحماسة الناخبين.
المفارقة أن هذه النقمة لا تصبّ في مصلحة الأحزاب المعارضة لماكرون، التي لم توفق في حشد تأييد الناخبين. وفِي غياب بديل سياسي مقنع، من المنطقي أن تتجه غالبية الناقمين نحو المقاطعة. لكن سلاح المقاطعة، بخلاف ما كان عليه الأمر خلال انتخابات الرئاسة، سيكون مفعوله عكسياً تماماً، لأنه سيمنح الغالبية النيابية لحزب «الأقلية الساحقة» الذي لا يخدم سوى مصالح فئة قليلة من أصحاب الامتيازات والأثرياء وأرباب العمل والمستفيدين من العولمة الزاحفة!