تستند الحرب السورية في كثير من مفاصلها المؤثّرة إلى حقيقة كونها «حرب أحلاف» يخوضها حلفٌ عرف حتى الآن كيف يحافظ على أرضيّة من التفاهمات الصلبة («حلف دمشق»)، في مواجهة حلف مركّب بدوره من مجموعة تحالفات متباينة الأهداف ومتضاربة الأجندات. وتشكّل معارك الحدود محطات مهمة لتظهير أهمية هذه التحالفات في حسابات الجغرافيا والعسكرة. وكما لعبت معركة القصير قبل عامين دوراً محورياً لجهة تثبيت النفوذ السوري على حدود الغربيّة، تبدو معركة أم الصلابة (بادية البوكمال) مؤهلةً للعب دور مماثل على الحدود الشرقيّة، يضاف إلى ذلك أن معارك شرق سوريا تكتسب أهميّة خاصّة في حسابات المستقبل وعلى صعدٍ عدّة: عسكرياً، استراتيجياً واقتصاديّاً
معركة الحدود السوريّة ــ العراقيّة ليست الأولى من نوعها، بل هي جولة مهمّة من جولات «حرب الحدود» التي تحظى بمكانةٍ مفتاحيّة في المشهد السوري. ولعلّ أكثر ما يميز المعركة الراهنة عمّا سبقها هو توقيتُها الذي يتزامن مع تشابك خيوطٍ كثيرة: أفول تنظيم «داعش»، تنامي قدرات «قوّات سوريا الديموقراطيّة»، تزايد الانخراط الأميركي في الميدان السوري وانعكاسات الملفّات الإقليميّة الآخذة في التعقيد أكثر فأكثر.
وليس من المبالغة القول إنّ إخفاق المحور المعادي لدمشق بترجيح كفّته في الصراع السوري بعد سبع سنوات من نشوبه، يبدو أحد أسباب عودة الخلافات داخل تحالفات هذا المحور إلى السّطح (الأمر الذي تكرّر في مشهد الحرب اليمنيّة أيضاً). ومن المعلوم أن عمر الخلافات الخليجيّة أكبر من عمر الحرب السوريّة، غير أنّ الأخيرة شكّلت فرصةً لتأجيل تفجر تلك الخلافات، شأنها في ذلك شأن العدوان على اليمن، في محاولتين للهروب إلى الأمام. وتقود هذه التفاصيل إلى جزئيّة بالغة الأهميّة طبعت الحرب السوريّة على امتداد الخط وخلاصتها «تضارب الأجندات» داخل التحالف المعادي لدمشق، إلى حدّ انزلاق هذا التضارب من مجرّد سباقات على النفوذ والهيمنة داخل التشكيلات المعارضة (سياسيّة وعسكرية) إلى صراعات دامية في غير بقعة من المناطق الخارجة عن سيطرة الدولة السوريّة بين مجموعات متضاربة التبعيّات.
على المقلب الآخر، أفلح «حلفُ دمشق» في الحفاظ على قدرٍ لا يُستهان به من الانسجام رغم وجود تباينات كثيرة في ملفّات عدّة. وإلى هذا الانسجام، يرجع الفضل في النقلة الاستراتيجيّة المهمّة التي مثّلتها مستجدّات الحدود السورية ــ العراقيّة. ومن المفيد التذكير بأنّ معارك الحدود الشرقيّة لسوريا هي في واقع الأمر «الحلقة الثانية» في هذا الإطار، بعد عامين من معركة القصير (19 أيار – 5 حزيران 2013) التي كانت مفصلاً بالغ الأهميّة من مفاصل معركة حدود سوريا الغربيّة (الحدود اللبنانيّة). ثمة قاسم مشترك مهم بين معركتي «الشرق والغرب» قوامُه خوض الجيش السوري لكلّ منهما بمشاركة حليف قوي يُسهم في المعركة من الجهة الأخرى: حزب الله في لبنان، والحشد الشعبي في العراق. وبطبيعة الحال، يعود الفضل في وجود هذا القاسم إلى متانة «حلف دمشق». تكتيكيّاً، جاءت حيثيّات وصول الجيش السوري وحلفائه إلى الحدود العراقيّة بمثابة نسخة عن «إنزال الطبقة» مع تبادل المواقع. ففيما أدى الإنزال الأميركي (آذار الماضي) إلى قطع طريق الطبقة أمام الجيش وحلفائه، يبدو جليّاً أن أحد أهم أهداف الالتفاف الذي نفذه الجيش وحلفاؤه قطع طريقين أمام المجموعات المسلحة العاملة تحت كنف الأميركيين من التنف: نحو دير الزور (شمال) أو نحو البوكمال (شمال شرق). وتأتي هذه التكتيكات في سياق تسابق بين مختلف القوى المتصارعة في المشهد السوري على تقويض نفوذ «داعش» وتثبيت مناطق سيطرة يُنتظر أن تلعبَ دوراً مهمّاً في مستقبل الصراع السوري، سواء كان شكل هذا الصراع عسكريّاً أو سياسيّاً.
ويبدو مرجّحاً أن الولايات المتحدة كانت قد سلّمت سلفاً بأنّ معركة تحرير دير الزور وريفيها الجنوبي والشرقي هي معركة الجيش السوري وحلفائه. يدفعُها إلى ذلك انعدام وجود كيان مسلّح يمكن الاعتماد عليه ذراعاً بريّة لخوض معركة من هذا الوزن. وخلافاً لما هي الحال في معارك الرقّة التي وجدت في «قسد» حصانها الأسود، لم تتوافر المواصفات الملائمة في «جيش مغاوير الثورة» للعب هذا الدور في دير الزور، رغم أنّه أنشئ لهذه الغاية وتلقّى تدريباً ودعماً متقدّمين. ويُعدّ «مغاوير الثورة» امتداداً لـ«جيش سوريا الجديد» الذي تم تشكيله في تشرين الثاني 2015 بصبغةٍ سلفيّة طاغية، وفقاً لما أكده أحد قادته لـ«الأخبار» حينها (راجع «الأخبار»، العدد 2836) . وعلى الرغم من التسليم الأميركي المفترض بهذه النتيجة، كانت المناورة لقطع الطريق ضروريّة للحيلولة دون أي مفاجأة على هذا الصعيد. غياب «الذراع البريّة القويّة» جعل الخيارات العسكرية الأميركية مقصورةً على اثنين، أوّلهما: دخولٌ بري مباشر على الخط بغية منع الجيش وحلفائه من الوصول إلى الحدود العراقيّة، وهو خيار يتطلّب تغييراً كليّاً في التعاطي العسكري الأميركي مع الصراع في سوريا (حتى الآن تدير واشنطن انخراطها في الملف السوري وفق مبدأ «Low intensity conflicts/ النزاعات المنخفضة الحدّة»). وثانيهما الاكتفاء بفرض منطقة نفوذ قرب المثلث الحدودي بين سوريا والعراق والأردن (التنف).
والواضح أن الرهان الأميركي استقر على الخيار الأخير (في المرحلة الراهنة على الأقل). ويأتي التشبث الأميركي بالتنف بفعل دافعين أساسيين: الإبقاء على أوراق ضغط عسكريّة يمكن استخدامها لمحاولة قلب المشهد في أي لحظة، كما يمكن صرفها فوق الطاولات أو تحتها، أما الدافع الثاني فهو تحويل التنف إلى «نقطة مراقبة وتدخل سريع» تعترض طريق «طهران، الضاحية الجنوبيّة». ولا ينبغي الافتراض أن واشنطن في صدد التسليم بـ«هزيمةٍ» في معركة الحدود الشرقيّة، فالمعركة فعليّاً لا تزال في بواكيرها. كما أنّ الخيارات في شأن دير الزور لا تزال حاضرةً على الأقل لتحويل «الدير» إلى بؤرة استنزاف للجيش وحلفائه عبر رسم مسار انسحاب لـ«داعش» من الرقّة نحو الشرق. وهو خيار قد تكمله محاولات استنزاف مماثلة تخوضها المجموعات المدعومة أميركيّاً (مثل «مغاوير الثورة» انطلاقاً من الجنوب والجنوب الشرقي. وتحتفظ الحدود السورية مع الأردن بقدرة على التأثير في معارك الحدود الشرقيّة (مع العراق) ويُنتظر أن يشكل هذا حافزاً أساسياً يدفع الجيش السوري وحلفاءه لمحاولة تقسيم معركة الحدود الجنوبيّة إلى معركتين: يسعى في أولاهما إلى توسيع نطاق سيطرته في محافظة درعا، ويحاول تأجيل الثانية (معركة التنف) إلى مرحلة لاحقة لتعزيز القبضة على الحدود العراقيّة. وتضع هذه الاستراتيجيّة على المحك حجم الانخراط الأميركي في الحرب. وإذا كان اللاعب الأميركي يحاول حتى الآن رسم مسارات المعارك وتوجيهها فقط، فإنّ الصورة قد تتغيّر إذا ما أثبتت دمشق وطهران جديّتهما في «كسر التوازنات».