اطلعت «الأخبار» على نسخة من ملف الشكوى القضائية التي تقدم بها الادعاء العام الأميركي (بشخص مساعدي المدعي العام ستيفن ريتشن وأندرو بيتي) في 31 أيار الفائت ضد مواطن لبناني أميركي محتجز حالياً في الولايات المتحدة، بحجة التآمر الجنائي وتقديم الدعم لحزب الله المصنف، بحسب القانون الأميركي، «منظمة إرهابية» منذ عام 1997. ولا بد من الإشارة الى أن هذا التصنيف جاء قبل اندلاع الحرب في سوريا وقبل اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005 وقبل تحرير الجنوب عام 2000.
تبين من ملف الشكوى الأخيرة أن المحقق الخاص في مكتب التحقيقات الفيدرالي (اف بي لآي) دانيال غانسي كان قد صاغ نصها وعرض القرائن والوقائع المزعومة بصفته المحقق الرئيسي في هذه القضية. وتضمنت الشكوى سبعة اتهامات جنائية هي تقديم الدعم الى منظمة مصنفة إرهابية والتآمر الجنائي لتقديم ذلك الدعم، وتلقي التدريب العسكري من تنظيم إرهابي والتآمر الجنائي لتلقي ذلك التدريب، وحيازته أسلحة حربية ونقلها والتآمر الجنائي للقيام بتداولات مالية لمصلحة حزب الله.
المشكو منه هو رجل في السابعة والثلاثين من العمر يدعى سامر الدبق، يزعم المحقق الفيدرالي أنه ينتمي الى «منظمة الجهاد الإسلامي» منذ عام 2007. ويدعي المحقق أن هذه المنظمة تعرف كذلك باسم «الوحدة 910»، وهي جزء من حزب الله يتولى «العمليات الخارجية». وكانت الاستخبارات الإسرائيلية قد أطلقت موقعاً إلكترونياً باسم «ستوب 910» لحضّ لبنانيين على التعامل مع الإسرائيليين من خلال تزويدهم بمعلومات عن الوحدة.
يبدأ المحقق الفيدرالي نص الشكوى بذكر مزاعم لا تستند الى أي دليل جنائي يتمتع بقيمة ثبوتية أمام المحاكم. إذ إنه زعم أن حزب الله ضالع في تفجيرات ثكنة قوات البحرية الأميركية والسفارة الأميركية في بيروت وخطف طائرة «تي دبليو أي» عام 1983، وتفجير السفارة الإسرائيلية في الأرجنتين عام 1992، والمركز الثقافي اليهودي في بوينس آيرس عام 1994. فيما لم تصدر أي أحكام قضائية عن أي جهة مستقلة تثبت مسؤولية الحزب عن هذه الهجمات، وبالتالي فإن اعتمادها قرائن في ملف قضائي يعد خروجاً عن الإطار القانوني واعتماد معلومات بوليسية واستخبارية غير مثبتة.
وفي معرض تقديم الخلفية عن التنظيم «الإرهابي» في نص الشكوى، أضاف المحقق دانيال غانسي أن محمد حسن محمد الحسيني، أحد ضحايا تفجير بلغاريا عام 2012، هو من قام بتفجير الباص الذي كان يستخدمه إسرائيليون بواسطة عبوة مصنوعة من نيترات الأمونيوم. والحسم بمسؤولية الحسيني استند الى «عثور المحققين على ثلاث رخص سير أميركية مزورة» في محيط مكان وقوع الهجوم، إحداها تعود له. وزعم المحقق أن الحسيني منتسب الى منظمة الجهاد الإسلامي، رغم أنه لم يتبين للقضاء البلغاري أي صلة أكيدة له بالأمر أو بالرخص المزورة. ولم يصدر حتى اليوم أي قرار قضائي يثبت ضلوع الحزب في هجوم بلغاريا. لكن الاتهامات السياسية في هذه القضية تحوّلت لدى العديد من الدول الغربية الى أحكام مبرمة ضد حزب الله. وكان الاتحاد الأوروبي قد استند الى هذه الاتهامات لتصنيف «الجناح العسكري» للحزب إرهابياً عام 2013.
ويتبين من نص الشكوى القضائية أن السبب الحقيقي لإضافة المزاعم المتعلقة بهجوم بلغاريا على الخلفية هو لربطها بتجريم سامر الدبق. إذ إن المحقق زعم أن مسؤولين في حزب الله كانوا قد طلبوا من الدبق أن يتجنب السعي الى شراء كمية من السماد الزراعي يحتوي على نيترات الأمونيوم لصناعة عبوة متفجرة بواسطتها، لمنع انكشافه. لكن هذه الرواية البوليسية لا تتطابق مع ما ورد في الجزء الأخير من نص الشكوى الذي جاء فيه أن حزب الله، بحسب نتائج التحقيق الاستنطاقي مع الدبق نفسه، كان قد احتجزه في لبنان من كانون الأول 2015 حتى نيسان 2016 بحجة أنه يعمل جاسوساً لمصلحة الولايات المتحدة. وزعم الدبق، بحسب المحقق، أن المسؤولين قالوا له إنهم كانوا يعلمون أنه عميل أميركي مند قبل قيامه بأي مهمات لمصلحتهم وهو اعترف بذلك لهم، وقال إن الأميركيين دفعوا له 500 ألف دولار بالمقابل.
على أي حال، إن ما أورده المحقق الفيدرالي من مزاعم بشأن علاقة الدبق بالحسيني وبحزب الله يستحق التوقف عنده:
أولاً، زعم المحقق أن الدبق اعترف أمامه بأن علاقة قرابة عائلية تربطه بمحمد الحسيني وأنه تمكن من تحديد هويته عندما عرضت عليه صورة شمسية تعود له. وزعم المحقق أن الدبق أقر بأنه كان على علم بهجوم بلغاريا وأن الحسيني هو المنفذ وهو عضو في منظمة الجهاد الإسلامي.
ثانياً، زعم المحقق أن الدبق قام بتدريبات عسكرية عام 2008 في لبنان شملت استخدام الأسلحة الرشاشة وقاذف صواريخ ومسدسات و«تدريب على القواعد الدينية لعقيدة الاستشهاد» وتدريبات بشأن صناعة المتفجرات واستخدامها. وورد في الفقرة 17 من الشكوى أن التدريب الذي تلقاه الدبق في مجال المتفجرات يتطابق مع التدريب المطلوب لصناعة متفجرة شبيهة للمتفجرة المستخدمة في تفجير بلغاريا عام 2012.
ثالثاً، زعم المحقق أن حزب الله جند الدبق عام 2007 وبات يتقاضى راتباً شهرياً منه منذ ذلك الحين. ويضيف ان قيمة الراتب لا تتعدى ألف دولار أميركي... بينما زعم أنه كان يتقاضى 500 ألف دولار من الأميركيين كما ذكر آنفاً.
بالانتقال من المزاعم التي كونها المحقق استناداً الى التحقيقات الاستنطاقية، الى خلاصات تحليل البريد الإلكتروني للدبق وحسابه على «فيسبوك»، يدعي غانسي أنه:
بعد تلقيه تدريبات على صناعة المتفجرات، تلقى الدبق إيميلاً من عنوان إلكتروني في إيران تضمن «معلومات عن مواد كيماوية يمكن نقلها من سوريا الى دبي». وتبين للمحقق أن هذه المواد «تستخدم باستمرار لصناعة المتفجرات». لكن، هل يُعقل أن تتم مراسلة الدبق لإطلاعه على معلومات حساسة أمنياً عبر الإنترنت الذي بات الجميع يعلم حتمية اختراقه من قبل أجهزة الاستخبارات العالمية؟
تعرف الدبق الى العديد من الفتيات التايلانديات عبر فيسبوك، وقال المحقق إن الدبق سافر الى تايلاند عام 2009 وإن مشغليه في حزب الله قالوا له أن يقيم علاقة مع فتيات تايلانديات وأن يتصرف وكأنه يبحث عن إقامة علاقات جنسية. وطلبوا منه أن يجند إحدى الفتيات لتساعده على التخلص من كمية من نيترات الأمونيوم بعد انكشاف التحضيرات لعملية إرهابية بواسطتها. لكن التدريبات التي كان المحقق قد زعم أن الدبق خضع لها لا تشمل تجنيد العملاء، فكيف يكلف بالقيام بمهمات لا يعدّ مؤهلاً لتنفيذها؟
أرسل الدبق إيميلاً من تايلاند الى شقيقه في بيروت عام 2009 قائلاً «انتهت المهمة وسأعود يوم الأحد». لكن هل يمكن الاستناد الى ذلك للحسم بأن «المهمة» هي عمل جنائي أو إرهابي؟
بين عامي 2014 و2016 قام الدبق بـ 258 عملية بحث عبر فيسبوك عن «شهداء الدفاع المقدس» و«شهداء المقاومة الإسلامية» و«شهداء حزب الله» و«شهداء المقاومة الإسلامية في لبنان». كما قام الدبق بالبحث عبر فيسبوك عن «حمزة فضل الله» وعن صور للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله. لكن هل يعقل أن يقوم شخص يعمل لمصلحة حزب الله في المجال الأمني والاستخباري، مقيم في الولايات المتحدة، بالبحث عبر فيسبوك عن معلومات بشأن شهداء الحزب وأمينه العام؟
زعم المحقق أن الدبق سافر الى باناما مرتين عام 2011 و2012 للتحضير لهجوم إرهابي، مستنداً الى ما نشره على حسابه الخاص في فيسبوك قبل أسبوعين من سفره، حيث نشر «لا تسالم من قتل شعبك ...». واستند المحقق الى عدد كبير من الصور الفوتوغرافية التي أخذها الدبق لقناة باناما للزعم أن «منظمة الجهاد الإسلامي» طلبت منه البحث في إمكانية استهدافه إرهابياً. وللتأكيد على مزاعمه، استند المحقق كذلك الى إيميل أرسله الى شركة سياحية، طالباً مشاركته في جولة لمشاهدة أنواع الطيور في حديقة عامة تقع قرب القناة. لكن اتباع المحقق منهجية جمع كل ما يمكن أن يؤكد ظرفياً صحة خلاصة محددة مسبقاً تتكامل مع مقولة مذنب حتى يثبت العكس، وبالتالي فهي تنسف قرينة البراءة التي تجسد إحدى أهم ركائز المحاكمات العادلة.
ذكر نص الشكوى القضائية أن حزب الله كان قد طلب من الدبق تصوير السفارة الإسرائيلية في باناما «لكنه لم يفعل خشية انكشافه». وبالتالي، يمكن الجزم، بحسب الادعاءات الواردة في نص الشكوى، أن الدبق لم ينفذ توجيهات الحزب بدقة ولم ينصَع لكل التوجيهات الصادرة عن مشغليه المزعومين. فهل يعقل أن يجند حزب الله عملاء لا ينصاعون لأوامره بدقة للقيام بعمليات خارجية متطورة؟
أخيراً، لا بد من التوقف عند تركيز نص الشكوى على استخدام الدبق جواز سفره اللبناني للدخول الى لبنان والخروج منه واستخدام جوازه الأميركي لدخول ماليزيا وتايلاند وباناما وكولومبيا، باعتبار أن ذلك قد يشكل دليلاً إضافياً لسعي الدبق الى التمويه عن تحركاته. لا شك أن تغيير جواز السفر المستخدم أثناء السفر أمر قد يدعو الى الشك في الحالات العادية. لكن هذا الأمر يعد طبيعياً لمعظم اللبنانيين. إذ إن الحصول على تأشيرة دخول الى بعض البلدان أو الإعفاء من التأشيرة متاح لحاملي جوازات السفر الغربية ولا ينطبق ذلك على جوازات السفر اللبنانية.