«يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المُرسلين إليها؛ كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تُريدوا؟ هُوَذَا بيتكم يُترك لكم خراباً لأني أقول لكم إنكم لا ترونني من الآن حتى تقولوا مُبارك الآتي باسم الرب»
(إنجيل متى 23)

كلّ شيءٍ مرتّب في قاعة الطابق الأوّل من فندق «لو غبريال» في الأشرفية. الطاولة المستطيلة والمنبر، وأوراق ملخّص ورشة عمل لقاء «سيّدة الجبل» تحت عنوان «القدس توأم العواصم العربية ومقصد الحجّ والزيارة بلا قيود لجميع المؤمنين» موزّعة أمام كلّ كرسي. غاب الراحل سمير فرنجية، فوجد النائب السابق فارس سعيد شيئاً يَرْأَسَه، بعد اندثار «14 آذار»، الفكرة لا الإطار.

على مدخل الفندق والزوايا المحيطة، وقف عناصر قوى الأمن الداخلي لحماية نشاطٍ «ما»، لم يعرفوا عنه شيئاً. كان الجنود اللبنانيون صباح أمس يحرسون مؤتمراً يدعو إلى «السلام» مع إسرائيل، مقابل الأجر الذي يتلقّونه من الدولة التي لا تزال تناصب العداء لإسرائيل. لا هَمّ. فهذا «البلد» ديموقراطي إلى هذا الحدّ.
للأمانة، لم يكن عنوان الورشة، الدعوة إلى سلامٍ مع الكيان الذي قام على تاريخٍ كاذبٍ ووعدٍ كاذب، مع أن سعيد كان قد أرخى لسانه في نيسان الماضي، فزلق ما في قلبه، داعياً إلى «السلام» مع إسرائيل. الورشة أمس بريئة براءة يهوذا، مكلّلة بالغيرة على القدس والمقدسيين، منحوتة من جراح الفلسطينيين وكيد «الدولة اليهودية»... ورشّة مناجاة، لخلاص القدس من «الخشبيين»، جماعة «المحور السوري ــ الإيراني»، أكثر منها للخلاص من التهويد والتنكيل وتزوير التاريخ.
وهل يجرؤ أحد على اعتراض جموع المؤمنين التوَّاقين للقيا كنيسة القيامة إذا ما قرّروا الزحف نحو القدس؟ «برافو» فارس سعيد وصحبه. عنوان موفّق لمشروعٍ ساقط.
أمّا الحاضرون، فوجوهٌ بعضها لم يلتقِ بعضاً منذ زمن. لكن، تخيّلوا! التقت القلوب على الوَلَهِ بالقدس. النائب نديم الجميّل لا يغيب عن «خشوعٍ» من هذا الطرز، كما الكتائبي العتيق جوزف بو خليل. الوزير السابق حسن منيمنة وجد نفسه أيضاً. في قضايا الخيانة الزوجية أمام الكنيسة، لا تكتمل الواقعة من دون شاهد، ولا يهمّ إن كان شاهد زور أحياناً. هكذا كان حضور الفلسطيني هشام الدبسي، مدير «مركز تطوير للدراسات الفلسطينية». الدبسي من جماعة محمود عبّاس، ووالد وَلَدِهِ «إعلان فلسطين في لبنان 2008»، أو خارطة الطريق لِعَجْنِ «أوسلو» بـ«الجبهة اللبنانية».
لم يتأخر موعد بدء الورشة عن الساعة 11. سريعاً، قرأ إيلي الحاج الملخّص الأوّلي للورشة، وفيه «لماذا الآن؟». الجواب يأتي لاحقاً. فارس سعيد في كلمته اختار الطريق الأقصر إلى الفكرة. طبعاً حاك حولها غلافاً روحياً، لكنّه بدا كمذنبٍ يدور حول ذنبه: في كَبِدِه «التطبيع» مع إسرائيل، وعلى لسانه حلو الكلام عن الحجّ إلى القدس. ومع ذلك، رسم لـ«المسيحيين اللبنانيين» طريقاً من ثلاث: الغرق في الأزمات الداخلية، الانخراط في «حلف أقليّات» (تَرَكَه مبهماً حتى لا يغرق في شرّ التوصيف)، أو أن يكونوا جسراً لـ«السلام»! الخياران الأوّلان «شريران»، فالأمر محسوم من النبرة وتجهّم الوجه. الخيار الأخير قِلَادة قرب قلب سعيد. ثمّ يعرض سعيد بكلّ صراحة/ وقاحة: «مبادرة من السلام لأجل السلام، لأن المسيحيين لن يستطيعوا العيش إلّا من أجل السلام». غريب. لماذا لم يعرض سعيد «السلام» مع «النصرة» و«داعش»، أبناء إسرائيل الشرعيين؟ وبدل ذلك، تنعّم طوال السنوات الماضية في قرطبا بـ«سلام البنادق» الذي أرساه حزب الله والجيش اللبناني والوطنيين اللبنانيين مع العصابات التكفيرية؟
وسعيد، «خبيث» بعض الشيء. لن يكون «ملكاً أكثر من الملوك»، قال: نقبل بما يقبل به الفلسطيني. نكتة منذ التسعينيات، حملتها الرياح مثل «حبوب الطلع» من وادي عربة إلى الأشرفية.
جاء دور الدبسي، فبدأ كلامه بأن «أحداثاً قاسية تنتظر مخيّم عين الحلوة»، أو شيئاً من هذا القبيل. هل هي معلومات أم تحليل؟ أم تمنيّات؟ أم في سياق «لماذا الآن؟». لم نفهم، فلننتظر. كل اللوم في فلسطين على جيش الاحتلال. ممتاز. لكن في رأس الدبسي فكرة لامعة، «المقاومة السلمية». لم نفهم أيضاً. هل قصد انتفاضة 1987؟ أم غاندي؟ أم أن «الايديولوجيا حين تخدم الانسان، ينتصر السلام»؟ «السلام» مجدّداً.
بقي شاهدٌ آخر. الكاتب محمد حسين شمس الدين. رسم الرجل حروفه بإتقان، بحرفية الذي باع صكوكاً في الجنة، أيام الحملات الصليبية. شعر جميل وإلقاء أجمل، لكن لم يَعْلَق إلّا بيت محمود درويش: «البيت أجمل من الطريق إلى البيت»، والتعليق عليه: «كما يقول كل فلسطيني غير مكتوم بالديماغوجيا». و«الديماغوجيا» عند شمس الدين أيضاً «جماعة المقاومة»... باعوا الطريق لـ«البيت»، ويمهّدون لبيع «البيت». فالعاجزون، عندما تستفحل العلاجات الطبيّة، يعيّرون غيرهم على شرف المحاولة، ثم يبرّرون العجز بالاستسلام، ويغلّفونه بجرأة الاعتراف، أو بـ«السلام».
فلنعد إلى «الجدّ». البيان الختامي للورشة يدعو إلى أن «تكون القدس مقصد الحج والزيارة بلا قيود لجميع المؤمنين، مسيحيين ومسلمين ويهوداً»، وعلى رأسهم المسيحيون اللبنانيون طبعاً.
والخبث هنا فاقعٌ بعض الشيء. استند المشاركون إلى «دعوة البابا بنديكتوس السادس عشر، في إرشاده الرسولي الخاص بسلام الشرق الأوسط (أيلول 2012)»، و«مبادرة البابا فرنسيس الأول إلى زيارة الأماكن المقدّسة في فلسطين (أيار 2014)» و«دعوة القمة العربية الأخيرة في عمّان (آذار 2017) العواصمَ العربية إلى التوأمة مع مدينة القدس».
حسناً، إذا كان الحجّ العالمي إلى القدس في تراجع مستمرّ احتجاجاً على سياسات الاحتلال، فما هو الملحّ في حجّ اللبنانيين؟ حملات المقاطعة الأوروبية تهدّد إسرائيل جديّاً وتضعها تحت أعباء طائلة، ولبنانيون يريدون منح الشرعية للاحتلال بـ«بلاش». سريالية ليس بعدها، سوى بكاء التماسيح. أَنَحُجُّ إلى القدس وكنيستها العربية محتلة من يوناني يبيع أملاك المقدسيين لليهود؟ ألا يستأهل الأمر اعتراضاً في حاضرة الفاتيكان؟ أو لدى الأحبار المشرقيين؟
وعلى قلّة المزارات اللبنانية والقديسين، هل زار أعضاء لقاء «سيّدة الجبل» قانا الجليل، أو سمعوا بكنيسة «خريتوفورس»/«حامل الله» في صور، الكنيسة الأقدم في لبنان؟ الطريق من صور أقرب إلى القدس.
ثمّ ما هو موقف بكركي والبطريرك بشارة الراعي من هذه الطروحات؟ قيل إن بكركي صرح وطني وعلى مسافة واحدة من جميع اللبنانيين. وقيل، أيضاً، إن مرحلة ما بعد الحرب الأهلية حملت مراجعة نقديّة لعلاقة البعض بإسرائيل، أو التناغم معها. هكذا أثبت الرئيس ميشال عون. على أيّ الجوانب ينام «لقاء سيّدة الجبل»؟
ولنفترض أن الدولة اللبنانية قبلت بهذا العرض، فهل يقبل بنيامين نتنياهو؟ اللهم إلا إن كان في الأمر إعداداً لمرحلة يظنّها البعض آتية.
من يعبّر أكثر عن حاجة المقدسيين إلى الدعم؟ فارس سعيد وهشام الدبسي أو المطران عطاالله حنا رئيس أساقفة سبسطية للروم الأرثوذكس في القدس؟ بالنسبة إلى حنّا، «مفهومٌ رغبة كلّ مؤمن بالحجّ وزيارة القدس، لكنّنا نخشى أن تستغلّ مثل هذه الزيارات بهدف التطبيع ومنح الشرعية للاحتلال، فيبسط سيطرته أكثر بالتنسيق والحماية. المطالبة بالحجّ كلام يراد به باطل، يراد به التطبيع مع الاحتلال، وكلمة السلام جميلة، لكن مشكلتنا أن هناك أطرافاً يحدثوننا عن السلام وليس عن العدالة. نحن كفلسطينيين لن نستسلم للذين يريدون فرض الاستسلام علينا».
أمّا «لماذا الآن؟»، لأن إسرائيل تلهث خلف التطبيع مع لبنان تحديداً. والدليل، حفلة الاستعلام الأمني/ الإعلامي الإسرائيلية و«جسّ النبض»، لرصد ردّ فعل الشارع اللبناني على منع الدولة عرض فيلم «ووندر وومن».

المصدر: فراس الشوفي - الأخبار