تحاصر الأزمة الخليجية الرئيس سعد الحريري من كل الجهات. هذه المرة لم تقع الخصومة بين محورين متعارضين، بل بين «الإخوة» الذين تربطه بكل واحد منهم علاقة مصلحة. بين تركيا وقطر من جهة، والرياض والإمارات ومصر من جهة أخرى، يجد رئيس تيار المستقبل نفسه مجبراً على الانحياز إلى أحدهما. لكنه في كل الأحوال، ومهما كان خياره، فإنه في ميزان الحساب سيكون خاسراً
ما إن يخرج رئيس الحكومة سعد الحريري من حفرة، «حتى يقع في دحديرة»، على ما يقول مثل مصري. بعدَ زيارته السعودية على متن طائرة الملك سلمان في آذار الماضي، استبشر خيراً، لكنّ شيئاً لم يتغيّر. ثمّ جاءت مشاركته في القمة العربية الإسلامية – الأميركية واللقاءات التي عقدها. تنفّس الصعداء مجدّداً. ثمّ ما لبث أن فوجئ بقرارات قضائية سعودية ضد شركته «سعودي أوجيه».
وبين القمتين، زار قطر (شهر أيار الماضي) التي تلقّى فيها وعوداً بحصول لبنان على دعم وفير للاجئين، لعلّ ذلك يُسعفه في بعض احتياجاته على أبواب الانتخابات. لكن «يا فرحة ما تمّت». ها هي أيام تمضي على القمّة الأخيرة، لينصبّ التصعيد الخليجي على قطر، ما أوقع الحريري بين منزلتين: الويل من إغضاب السعودية، والويل من قطيعة قطر!
رسمياً، لم يخرُج لبنان عن سكّة الحياد بشأن الأزمة الخليجية. موقف عبّر عنه الحريري في جلسة حكومية، حين رأى أن «لبنان بعيد عنها». لم يحرّك هذا الكلام سكون سفارات الدول الخليجية الثلاث التي تقود «الحرب السياسية» ضد قطر، قبل أن تكسِر الهدوء «شائعات» تفيد بأن «رجال أعمال لبنانيين يلعبون دوراً في نقل مساعدات إيرانية وتركية إلى الدوحة»، فعقد سفيرا الإمارات ومصر، والقائم بالأعمال السعودي، لقاءً (منذ 4 أيام) مع وزير الخارجية جبران باسيل. وبحسب ما علمت «الأخبار»، طُلب إلى باسيل «عدم التعاطف مع قطر ولا اتخاذ موقف داعم لها»، وهو بدوره أكد أننا «على مسافة واحدة من الجميع». وبعد طلبهم موعداً للقاء الحريري، اجتمع الأخير أمس في السراي الحكومي مع الثلاثي المصري الإماراتي السعودي.
موقع تيار «المستقبل» نقل بيان السفراء، الذي أكد «الحرص على إطلاع القيادات اللبنانية على أسباب ودوافع قرارنا المشترك، وذلك على ضوء العلاقات الوطيدة التي تربطنا بلبنان والمصلحة المشتركة معه في استقرار المنطقة». وقد أشارت مصادر دبلوماسية إلى أن «ما أعلِن كان هو الهدف الأساسي من الزيارة»؛ ففي الوقت الذي «تطحش» فيه قطر على محور إيران وتركيا وامتداداتهما في المنطقة، «كان لا بدّ من توضيح موقفنا في وجه أي محاولة مضادّة منها، وشرح الإجراءات التي اتخذت وسوف تتخذ، إضافة إلى بعض النقاط التي تُثبت تورّطها في الإرهاب، والاحتمالات التي يُمكن أن تنشأ عن الأزمة».
لكن بعيداً عن حديث «الصالونات السياسية»، يصحّ السؤال عمّا إذا كانت كتلة عربية كبيرة تتزعمها الإمارات ومصر والسعودية تجّد نفسها مضطرة إلى التبرير أمام مسؤولين لبنانيين أسباب خلافها مع دولة صغيرة كقطر؟ أم أن هناك دوراً مطلوباً من لبنان، في زمن تحمِل فيه «المملكة» شعار «العصا لمن عصى»؟ ما أكدته المصادر الدبلوماسية أنه «ليس مطلوباً من لبنان الانحياز إلى أي محور من المحاور المشتبكة، لأننا ندرك وضع لبنان الحسّاس». لكنها كشفت أن «أطرافاً عربية كانت تعمل على الطلب إلى رئيس الحكومة إعلان موقف، وكان هذا الأمر محطّ نقاش بين السفراء قبل أيام. غير أن الضغط المصري حال دون ذلك»، إذ «لا تريد مصر، وهي المدركة لتعقيدات الوضع الداخلي اللبناني، وخريطة الأحزاب والتيارات وارتباطاتها، الزجّ بلبنان في الأزمة». وأكدت المصادر أن «الحريري لم يطلب المساعدة المصرية، لكن هناك قرار دولي ــ عربي بتحييد لبنان عن أي نزاعات تؤدي الى تفجيره».
قد يكون الدور المصري أنقذ سعد الحريري رئيس الحكومة، بعدم توريط «مجلس وزرائه» بأيّ موقف. لكن هل نجا سعد الحريري رجل الأعمال المقرّب من الجناح الملكي في المملكة، وشريك أمراء قطريين في بعض أعمال «البيزنس»، وصديق الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، من الأزمة الخليجية؟ لا يبدو الأمر بهذا القدر من السهولة.
إذا ما وضع رئيس تيار «المستقبل» الورقة والقلم أمامه لاحتساب مصالحه في ميزان الربح والخسارة، فإن كفّة خسارته ستكون هي الراجحة، في حال قرر إصدار موقف من الازمة بين السعودية من جهة، وقطر وتركيا من الجهة الأخرى. كذلك فإن وقوفه على الحياد لن يحميه بالضرورة. فهو أولاً لا يستطيع «مقارعة» المملكة التي لا يزال، رغم كلّ شيء، يعتبرها السند الأول له. ومع كل الضغط الذي يُمارس على «سعودي أوجيه»، ما زال يحلم بعملية إنقاذ سريعة تقوم بها المملكة لأمبراطوريته. وفي هذه الفترة التي تحتاج فيها المملكة إلى أوسع تضامن، لن يتقبّل عقلها أن يقف أحد على الحياد. وبناءً عليه، ترى أن على من احتضنته وتياره، طيلة هذه الأعوام، الوقوف معها في أي مكان تكون فيه. وهي بالتالي لن تتساهل مع الحريري في حال تقاعسه، خصوصاً أنها لا تراه بعين واحدة مع الكويت وسلطنة عمان، إذ إنه لا يملك موقعاً متقدماً يسمح له بالتمايز. ولم تتضح بعد نتائج الزيارة التي قام بها الحريري إلى السعودية الأسبوع الماضي، رغم أن الهدف المعلن لها هو «تأدية العمرة».
أما قطر، فلفتت مصادر سياسية مطّلعة إلى أن ما يجمع الحريري بها أكبر وأكثر خصوصية. بعض المعلومات تؤكّد «شراكة تجمع الحريري بأحد أفراد الأسرة الحاكمة القطرية، قيمتها نحو 100 مليون دولار كقرض تلقّاه الحريري لقاء ضمانة هي أسهم في مؤسسات تابعة للحريري، بينها مؤسساته الإعلامية». ولهذا البلد الصغير مبادرات تجاه الحريري لا يُمكن تجاهلها؛ فحين عرض الرجل عقارات في جدّة للبيع لحلحلة أزمته المالية، تعهدت قطر بالشراء قبل أن ترفع الرياض الصوت عالياً لمنع إتمام الصفقة. كذلك عرض القطريون على الحريري شراء مبان عائدة لـ«سعودي أوجيه».
تركياً، لا تغيب صورة الحريري كواحد من الشهود على زواج ابنة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، إلى جانب آخرين من الدائرة الضيّقة اللصيقة بـ«السلطان». كان ذلك في أيار من العام الماضي، وفي فترة يعاني فيها «الشيخ» من «نقمة» سعودية عليه. كذلك فإن لرئيس الحكومة اللبنانية أعمالاً تجارية في تركيا، والتي يمكن أن تكون مهدّدة في ظل أي موقف معاد يضطر الحريري إلى اتخاذه. ولن تقتصر هذه الخسارة على مجال المال والأعمال، بل سيكون لها مردود انتخابي. فقد علمت «الأخبار» أن «وفداً من حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا كان يُعدّ لزيارة لبنان، والقيام بجولة مع الأمين العام لتيار المستقبل أحمد الحريري في عدد من المناطق. والهدف «المستقبليّ» من هذه الزيارة تجيير الدعم لمصلحة الحريري في أيّ انتخابات مقبلة». فهل يغامر رئيس تيار المستقبل المأزوم بهذا الدعم، أم انه يرى نجاته في التزام الصمت؟