لقراءة مسارات معارك تحرير البادية السورية تلزم خمس خرائط لخمس محافظات. يتقدم الجيش السوري وحلفاؤه على محاور عدة، متباعدة جغرافية، مترابطة استراتيجياً. المعارك الدائرة في أرياف حمص وحماة وحلب والرقة تندرج جميعاً في إطار معارك تحرير البادية، وتضع الجيش في سباق مع الزمن نحو «المعركة الأخيرة» ضد التنظيم المتطرف، والتي تبدو دير الزور مسرحها الحتمي
منذ انطلاقتها، بدا واضحاً أن عمليّات تحرير البادية السوريّة من تنظيم «داعش» تنحو نحواً مختلفاً، لا عن عمليات الجيش وحلفائه السابقة فحسب، بل عن كل ما شهدته الجغرافيا السوريّة من معارك خلال السنوات الماضية. وحتى الأمس القريب كانت معظم المعارك تقوم على تخيّر أهداف محصورة في بقعٍ جغرافيّة محدّدة تضيقُ لتكون مجموعة قرى وبلدات أحياناً، وتتسع لتكون مدينةً أو قطاعاً جغرافيّاً من محافظة في أحيانٍ أقل.

أما معارك تحرير البادية الأخيرة فقد أخذت الخطط العسكريّة في حسبانها تسييرها في اتجاهات ومسارات شتّى تتوّزع بين محافظات عدّة وبتزامن مدروس. تستند الخطط في الدرجة الأولى إلى تكتيك «تشتيت الجبهات» الذي سبق للجيش وحلفائه أن اعتمدوه في مناسبتين سابقتين: غداة الدخول العسكري الروسي المباشر نهاية أيلول 2015 (راجع «الأخبار»، العدد 2718)، وفي الشهور الأخيرة من معارك ريف حلب وصولاً إلى خواتيمها. ورغم أن معارك 2015 قد شملت مساحات واسعة متوزعةً على غير محافظة في وقت واحد، غير أن الهدف في تلك المرحلة كان توسيع هوامش الأمان حول مناطق سيطرة الدولة السورية وضرب البنى التحتيّة للمجموعات المسلّحة تمهيداً لتثبيت خطوط سيطرة جديدة، فيما تختلف أهداف عمليات البادية الراهنة جذريّاً، من حيث كونها تهدف إلى التقدم البري وبسط النفوذ على مساحات شاسعة من الأراضي، وربط مدن ومحافظات بعضها ببعض، لتتحول بالتالي المساحات التي لطالما وُصفت بأنها «مجرّد مناطق شاسعة لا تمثل ثقلاً استراتيجياً» إلى مفاصل شديدة الأهمية في موازين الحرب.
ومن شأن عمليات الربط أن تؤدي بطبيعة الحال وظائف ثنائيّة المنحى: دفاعيّة بالنسبة إلى المناطق الواقعة تحت سيطرة الدولة السوريّة عبر توسيع محيط الأمان، وهجوميّة بالنسبة إلى المناطق الخارجة عن السيطرة والتي يُنتظر أن تكون أهدافاً تالية لعمليات التقدم البري. استناداً إلى ما سبق، تصبح أهمية التقدم الذي حققه الجيش وحلفاؤه أمس على محور «أثريا ــ الرصافة ــ الرقة» مثلاً، أكبر من مجرّد تأمين طريق «أثريا ــ خناصر ــ السفيرة» (على أهميته بوصفه شريان حلب). ويبدو جليّاً أن تحقيق هذا الهدف يأتي بمثابة تحصيل حاصل، في الوقت الذي يمهّد التقدم لإحكام طوق حول الجيوب المتبقيّة للتنظيم في ريف حلب الجنوبي الشرقي أو إجباره على الانسحاب منها (الجيوب عبارة عن قرى ومزارع صغيرة ومتناثرة مثل الزكية، وهيبة كبيرة، وهيبة صغيرة، رسم الحميد، الثريا، اللواشي، مصنعة القصر... ويقتضي إحكام هذا الطوق بسط السيطرة على حوالى 35 كيلومتراً، هي في معظمها أراض مكشوفة). في الوقت نفسه تكتسب عمليّات الجيش المستمرّة في ريف سلمية الشرقي بعداً أكبر من تحصين مدينة سلميّة ومعالجة مشكلة الخاصرة الشرقيّة الرخوة التي شكّلت في خلال السنوات الماضية نقطة تهديد مستمرّة. وعلى نحو مماثل سيكون تحقيق هذا الهدف أمراً مفروغاً منه حالَ دخول منطقة عقيربات (ريف حماة الشرقي) على خط المناطق المحررّة. وتحظى عقيربات بأهميّة إضافيّة نظراً إلى كونها أكبر منطقة سيطرة للتنظيم في الجزء المتاخم من ريف حماة لأطراف سلسلة الجبال التدمريّة الشرقيّة (جنوب عقيربات، ويصل امتداد السلسلة إلى محمية البلعاس في ريف سلمية الشرقي). وبفعل التماس بين ريفي حمص وحماة، تكتسب مزامنة عمليات ريف حماة الشرقي مع عمليات محيط تدمر الشمالي أهميّة إضافيّة. وعلاوة على كون مغاور الجبال التدمرية مناطق تحصّنٍ لجأ إليها التنظيم منذ وصوله المنطقة، تحولت السلسلة أخيراً مقصداً لمعظم مقاتلي «داعش» المنسحبين أمام تقدم الجيش المستمر في محيط تدمر (ريف حمص الشرقي). ويبدو مرجّحاً أن خطط الجيش في ما يخصّ الجبال التدمرية تلحظُ في الوقت الراهن ضرورة تطويقها وعزلها عن أي تأثير محتمل قد يسعى التنظيم المتطرف إلى إحداثه في خارطة السيطرة، سواء في محاولة شنّ هجمات جديدة نحو تدمر، أو في محاولات شنّ هجمات انطلاقاً من الجبال تستهدف الخطوط الخلفية للقوات السورية التي يُنتظر أن تنطلق نحو السخنة. ويواصل الجيش عملياته في محيط تدمر الشمالي الشرقي، مولياً أهميّة خاصة للوصول إلى مدينة السخنة الاستراتيجيّة (70 كيلومتراً شمال شرق تدمر) التي تعتبر صلة وصل بين الحدود الإدارية لمحافظتي حمص ودير الزور. وتعتبر السخنة واحداً من أقوى تجمعات «داعش» العسكرية في البادية السورية.

المصدر: صهيب عنجريني - الأخبار