مرّ نحو ست سنوات على نسيان ليبيا. أحدٌ لم يساعد في الوصول إلى حل سياسي جدّي، وتحديداً الدول الغربية. صراعات الأطراف الإقليمية من جهة أخرى، أحرقت البلاد... التي يبدو أنّها تجد نفسها أمام عودة رجالات «العقيد»
عاد «القذافيّون» إلى تصدّر المشهد الليبي. لم يعد في الأمر ما يقبل التشكيك. لكن، استناداً إلى أي «صفقات» عادت رموزهم؟ سؤال سوف يبقى رهن التحليلات والقراءات، وقد يشكّل لغزاً يُضاف إلى لائحة طويلة من الألغاز العربية التي ما فتئت تُثقل حيواتنا السياسية.
مشهد «العودة» تتداخل فيه معطيات ليبية محلية بطبيعة الحال، والكثير من المعطيات الإقليمية. بخصوص المعطيات الأولى، فهي مفتوحة على القراءة السياسية المساعِدة على رسم صور المشهد. لكن في ظل السياق العربي الحالي، فقد يوفّر الصراع الخليجي ــ الخليجي (أو بالأحرى «نشر الغسيل الخليجي» المستمر) بعض العناصر المساعدة على الفهم، خاصة أنّ ليبيا ساحة تصارع مستمر بين تلك القوى.
قبل أيام، حين أُعلن (فجأة) إخلاء سبيل سيف الإسلام القذافي، قادت عدة مؤشرات نحو افتراض أنّ دولة الإمارات، وعبر أدواتها، لعبت الدور الأكبر في إخلاء سبيله. قيل إنّ هدفها (وهدف حليفتها، السعودية)، مواجهة النفوذ القطري ــ التركي في ليبيا (الأخبار، عدد ٣١٩٨). ولعلّ ما يعزز ذلك، هو أنّ مطّلعين على «الوساطات الخليجية» القائمة نقلوا أمس أنّ قطر «قدّمت ضمانات، وإن محدودة، تأخذ بالاعتبار الهواجس المصرية في ليبيا».
لا تزال هذه القراءة الأقرب إلى المنطق، رغم المعرفة المسبقة بأنّ ترجمة هذه «الصفقة» في ليبيا لا تزال غامضة، خاصة أنّ سيف الإسلام وخليفة حفتر (صاحب النفوذ الواسع في الشرق والقريب سياسياً من مصر والإمارات)، قد لا يلتقيان في السياسة. لكن على أي حال، هي «لعنة القذافي» التي تلاحق ليبيا. طيفه يقترب من البلاد التي أدمتها الحروب على مدى ستة أعوام. حروب فيها الكثير من «حروب الآخرين ــ الأشقاء، على أرضها».
الكاتب الليبي مصطفى الفيتوري يرى الأمور من زاوية أخرى. هو يجيب عن سؤال بشأن جدية «عودة القذافيين» بالقول إنّه جرى «إقصاؤهم من قبل الساسة المحليين والدول الإقليمية والدول الغربية، فهذه الأطراف اعتقدت منذ 2011 أن القذافي... انتهى وأنه رجل منبوذ من شعبه ويعتبر صفحة سوادء من تاريخ ليبيا»، مستدركاً بأنّ هؤلاء «عادوا واكتشفوا أنهم كانوا على خطأ، واكتشفوا أيضاً أن ليبيا لا يمكن أن تكون ديموقراطية ومستقرة وآمنة من دون أنصار القدافي». هذا ما يقوده إلى اعتبار أنّ «الذي سوف يحدث، وإن كان سيأخد وقتاً، هو أن الأطراف العاقلة، وخاصة الأوروبيين، سيطلبون من أنصار القذافي أن يتقدموا للعب دور، لأن السنوات الست الماضية أثبتت أنه لا مناص من إشراكهم في رسم مستقبل ليبيا، علاوة على أنّ هذا هو منطق الأشياء الطبيعي».
مؤشرات «العودة»
مساء أول من أمس، ذكر موقع إخباري أنّ «كتيبة ثوار طرابلس أقامت مأدبة إفطار رمضانية جماعية لرموز النظام السابق الذين كانوا معتقلين في سجن الهضبة مع ذويهم وأقاربهم وأعيان قبائلهم، وذلك في فندق المهاري في العاصمة طرابلس»، مضيفاً أنّ «مصدراً مقرّباً من أحد المعتقلين قال إن مأدبة الإفطار حضرها مدير المخابرات الأسبق عبدالله السنوسي، وعبدالله منصور، والساعدي معمر القذافي، والبغدادي المحمودي، وأبو زيد دوردة، وعدد من المعتقلين الآخرين، ومشايخ وأعيان من قبائل المقارحة وأولاد سليمان والقذاذفة والنوايل والرحيبات وذوو المعتقلين». وأشار آخرون إلى أنّ هيثم التاجوري (تاجر الأمن في طرابلس، بكل ما للكلمة من معنى) هو من نظّم «الإفطار» في الفندق الذي يسيطر عليه.
نفى بعضهم الخبر، لكنّ الأحاديث عن «رجالات القذافي» باتت شائعة في هذه الأيام. وهي تتكاثر بعد «إخلاء سبيل سيف الإسلام» يوم الجمعة الماضي. ذُكر أيضاً في هذا السياق أنّ من بين من تمّ الإفراج عنهم في الأيام الماضية كلاً من «العميد ناجى مسعود حرير، العميد الشريف محمد بن نيران، العميد الشريف بن نيران غميض، العقيد فتحي إبراهيم مبروك، العقيد محمد عبد الرحيم عبدالله، والمقدم سالم اعويدات اعويدات».
إذا صحّت أنباء كهذه، فإنّ اسمَي سيف الإسلام والسنوسي، وهو أحد أشهر رجال المخابرات العربية، قد يكفيان وحدهما، لبتّ «عودة القذافي». أحد «الخبثاء» علّق على الأمر مازحاً: «قد يرفد الروائي الجزائري ياسمينة خضرة روايته (ليلة الريّس الأخيرة) عن القذافي بجزء ثان، يتمحور حول عودته». ليس الوقت للمزاح ربما، إذ هنا أيضاً تُستذكر مسرحية «الملك يلهو» لفيكتور هوغو، التي يشير فيها إلى «المجنون الذي في حال أراد الانتقام، هزّ العالم». فهل نكون أمام «مجنون يهزّ» ليبيا المُدماة أصلاً؟ عند هذه الأسئلة تحديداً، ينتقل الأدب (السياسي) بسلاسة إلى خشبة السياسة الصرفة.
عهد «الانتقام»؟
في الظاهر، إنّ معظم الأطراف الليبية أعلنت صراحة رفضها لعملية «إخلاء سبيل» سيف الإسلام. الأكيد أنّ هناك من «لا يُجاهر باقتناعه بحلٍّ عبر سيف الإسلام». لكن، هل هو يفتح فعلاً الباب أمام «حل»؟
يفترض البعض اليوم أنّ الأطراف الغربية التي يمكن لها التأثير في ليبيا (الولايات المتحدة، فرنسا، إيطاليا، بريطانيا) تُدرك أنه بات من الصعب التوصل إلى حل ليبي داخلي، وإنّ ما يهمهم بات مسائل محددة على علاقة بضبط «موجات الهجرة» إلى أوروبا وبملف «داعش». «ربما هم لا يريدون حلاً»، يعقّب أحد المتابعين. وتتقاطع هذه الفرضية مع الاعتقاد بأنّ سيف الإسلام يُشكّل بديلاً من خليفة حفتر، يُمكن التوصل معه إلى حل سياسي (رغم أنه ملاحق من المحكمة الجنائية الدولية ومحكوم عليه بالإعدام في 2015 من قبل محكمة في طرابلس). لكن لماذا يكون «بديلاً من حفتر»؟
الباحث الجزائري حسني عبيدي يُجيب صراحة لدى سؤاله، بالقول: إنّ خليفة حفتر «يُمثّل رجل مرحلة، وليس رجل ليبيا (المستقبل)». يضيف أنّ شخصية سيف الإسلام قد تكون مقبولة أكثر لدى الإسلاميين مقارنة بحفتر، وذلك لعلاقته مع بعض منها في ما قبل 2011. لكنّ عبيدي يستدرك بأنه، في الأساس، من غير المعروف إذا كان لسيف الإسلام مشروع حالياً، «خاصة أنه لم يدلِ بتصريح بعد» (حتى مساء أمس). ويلمّح الباحث الجزائري إلى أنّ حفتر نفسه يبدو كأنه لم يتخذ قراراً بعد، لأنّ بعضاً من فريقه قد «يرون في التحالف مع سيف الإسلام مخاطرة».
هنا لا بد من التفصيل قليلاً، والقول إنّ حفتر لا يمثل حقيقةً شخصية «قذافية». هو ربما «مشروع قذافي جديد»، كما يصفه معارضوه. الماضي أيضاً لا يجمعه مع «القذافيين». فهو حاول في نهاية الثمانينيات قيادة انقلاب ضد معمر القذافي، قبل أن يتحوّل «في وقت لاحق إلى رجل السي آي إيه بعد لجوئه إلى الولايات المتحدة»، كما يقول دبلوماسي عربي.
وهنا أيضاً، لا بد من الإشارة إلى أنّ حديثاً يدور بين أوساط معينة أنّ حفتر ونجله خالد أسّسا قبل مدة شركة في الإمارات، تسعى إلى جني أرباح مادية لسببين: «تمويل جزء من معاركهم، وتعزيز ثروة شخصية خشية إزاحتهم من المشهد في ظرف ما». هذه أحاديث لا يمكن تأكيدها. لكن هل يمكن القول إنّ خروج سيف الإسلام و«رجالاته» يهدد مشروع حفتر؟ أو في أقل تقدير، يؤسّس أصلاً لمشروع بديل؟