القاهرة | نكسة ثانية حلت بمصر أمس. الدولة العربية المركزية التي خسرت وخسر العرب معها حرب 1967، في نكسة اعتقدنا أنها الأولى والأخيرة، بدا حكامها الجدد في الساعات الماضية، مسرعين نحو تسليم السعودية جزيرتي تيران وصنافير الاستراتيجيتين عند مدخل خليج العقبة.

وفي أقل من 30 دقيقة، مرر البرلمان أمس اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع السعودية، متجاهلاً الموقف الشعبي الرافض للتنازل عن الجزيرتين لمصلحة الأخيرة، والأحكام القضائية التي أكدت سيادة مصر عليهما. واستند البرلمان إلى تقارير حكومية داعمة للاتفاقية، رافضاً مناقشة أي وثائق مدافعة عن السيادة المصرية، ومتجاهلاً مطلب المعارضة بضرورة أن يكون التصويت على الاتفاقية من خلال النداء باسم كل نائب.
وما بدا أمس، رضوخاً برلمانياً للسلطة السياسية بالتصويت على الاتفاقية، قابله ردّ فعل غاضب في نقابة الصحافيين، التي استعاد درجها الخارجي ذكريات «ثورة 25 يناير»، خاصة بعدما اقتحمته قوات الأمن في محاولة لفضّ اعتصام المئات من الصحافيين والناشطين وشخصيات مثل حمدين صباحي وخالد علي. الأمر الذي أدى إلى أن تعيش النقابة يوماً كاملاً تحت «الحصار». وردد الصحافيون والمحتشدون هتافات ترفض التنازل عن الجزيرتين، وأخرى مناهضة للسيسي، داعين إلى التزام الأحكام القضائية، بينما أكد صباحي أن ما حدث هو بمثابة «حنث» بالقسم الذي أداه الرئيس ونواب البرلمان، مشيراً إلى أن ما يجري في البرلمان يعكس ضغوطاً ممنهجة مارستها أجهزة الدولة على النواب.
وبالعودة إلى الجلسة البرلمانية، فإنّ رئيس مجلس النواب، علي عبد العال، بدا وكأنه نجم ما وصفه البعض بـ«المسرحية الهزلية» التي استمر عرضها أربعة أيام تحت قبة البرلمان قبل الوصول إلى المشهد الختامي: «تنازلٌ بثلاثين دقيقة». ورأى عبد العال أنّ برلمانه «ليس لديه ما يخفيه» بخصوص الاتفاقية، نظراً إلى أن «الجميع حريص على المصلحة العام». وبرر الموافقة بأنها جاءت «بعد الاطلاع على ما قدمته اللجنة القومية التي شارك فيها رجال القوات المسلحة... والقاعدة الحاكمة للقوات المسلحة أن الذي حارب وضحى من أجل الوطن، لا يمكن أن يعرف (معنى) التفريط».
من جهة ثانية، جدد ممثل الحكومة، وزير شؤون مجلس النواب، عمر مروان، تأكيده أنّ اتفاقية ترسيم الحدود «ليست فيها مخالفة للدستور، أو تُعرّض أمن البلاد للخطر»، بل رأى أنها «تحقق المصلحة العليا للبلاد». ورأى أنها «لم تأتِ بجديد عما ورد في قرار الرئيس الأسبق حسني مبارك في عام 1990، والمودع في الأمم المتحدة».
وفي مجريات الجلسة، فقد جاء تمرير الاتفاقية بتأييد من «ائتلاف دعم مصر»، «حزب المصريين الأحرار»، و«حزب النور» السلفي، مع العلم بأنّ موقف الأخير شكل مفاجأة بالنسبة إلى البعض، ولكنه كان طبيعياً بالنظر إلى الروابط المتينة التي تجمع بين التيار السلفي في مصر والحاضنة السعودية التقليدية. وجدير بالذكر أنّ غالبية نواب «حزب الوفد» الذي يُعدُّ جزءاً من «ائتلاف دعم مصر»، لم تلتزم قرار الهيئة العليا للحزب الصادر قبل ساعات من التصويت، والداعي إلى رفض الاتفاقية.
وقبل الجلسة العامة ببضع ساعات، كانت الاتفاقية قد مُرِّرَت عبر لجنة الدفاع والأمن القومي، التي أنهت مناقشتها في أقل من 90 دقيقة، مكتفية بالمناقشات التي جرت في اللجنة التشريعية، في ما بدا إجراءً شكلياً فحسب. تزامناً، أرسل رئيس «ائتلاف دعم مصر»، رسالة إلى أعضاء ائتلافه، يطالبهم فيها بضرورة حضور جلسة التصويت «إعلاءً للمصلحة الوطنية»، ومشيداً بتحملهم الانتقادات والضغوط الشعبية التي يتعرضون لها لرفض الاتفاقية.
ويُعَدّ ترسيم الحدود البحرية مطلباً سعودياً منذ نحو 10 سنوات، فيما جرت مناقشات موسعة للاتفاقية على مدى ست سنوات، تضمنت 11 جولة اجتماعات للجنة ترسيم الحدود البحرية، والتي كثفت اجتماعاتها بالتزامن مع المنح المادية السعودية في أول عامين من حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي.
وفي معلومات «الأخبار»، فإنّ «جهة سيادية» استندت في الدراسة التي أعدتها لتأكيد سعودية الجزيرتين، إلى «قرار الرئيس الأسبق حسني مبارك رقم ٢٧ لسنة ١٩٩٠ حول تعيين الحدود البحرية المصرية، والمنشور في الجريدة الرسمية العدد ٣ في ١٨ كانون الثاني ١٩٩٠»، والذي جرى «إثباته رسمياً في الأمم المتحدة». وتشير الدراسة إلى «تطور مفاوضات التبعية منذ نهاية القرن التاسع عشر، من خلال وثائق تاريخية، من بينها خرائط تعود لعام ١٨٩٧، تقول إن الجزيرتين تقعان ضمن أراضي الحجاز قبل قيام المملكة السعودية». وتعتبر الدراسة أنّ اتفاقية ترسيم الحدود الشرقية بين مصر والدولة العثمانية في عام 1906، التي استند إليها المدافعون عن مصرية الجزيرتين، تتضمن تحديد الحدود بخط يبدأ من ساحل البحر المتوسط إلى نقطة على خليج العقبة، تقع بين شرق طابا وغرب أم الرشراش (إيلات حالياً)، وهو ترسيم للحدود البرية، ولم يتطرق «إطلاقاً» إلى تعيين الحدود البحرية.
وتكرر الدراسة أنه بعد احتلال إسرائيل الأراضي الفلسطينية عام ١٩٤٨، قرر الملك عبد العزيز طلب الحماية العسكرية للجزيرتين وجعلهما قواعد عسكرية مصرية، خوفاً من استيلاء إسرائيل عليهما. وتشير هذه الرواية إلى برقية من محفوظات وزارة الخارجية الأميركية، وهي موجهة من وزير الخارجية الأميركي دين راسك، إلى السفارة الإسرائيلية في ١٧ كانون الثاني عام ١٩٦٨، وتتناول «مشكلة تيران». وقد عرض الوزير الأميركي فيها نتيجة نقاش جرى بين السفير الأميركي في السعودية مع الملك فيصل، أوضح فيه الأخير أنه يعتبر الجزيرة سعودية، وأن حكومته لا تنوي تزويدها بوسائل دفاع عسكرية أو استخدامها لعرقلة حرية الملاحة في مضيق تيران. وتتحدث الدراسة أيضاً عن خريطة صادرة عن الأمم المتحدة في ١٩٧٣، وتضع جزيرتي تيران وصنافير ضمن النطاق السعودي، مشيرة أيضاً إلى ما نصت عليه معاهدة كامب ديفيد في عام 1978، بشأن خضوع الجزيرتين لمراقبة قوات دولية متعددة الجنسيات.
في المقابل، فإنّ ما قدّمته الحكومة المصرية لإثبات سعودية تيران وصنافير، تقابله مجموعة كبيرة من الوثائق، التي جمعها فريق الدفاع عن مصرية الجزيرتين، وقد شكلت الأساس الذي استند إليه القضاء الإداري، ولا سيما المحكمة الإدارية العليا، في حكمها التاريخي، في كانون الثاني الماضي، والذي أكد تبعية الجزيرتين لمصر لا للسعودية. وتجاهلت الحكومة المصرية، ومعها مجلس النواب، وثائق أخرى رسمية، طرحت لإثبات ملكية مصر تيران وصنافير، إذ منع رئيس مجلس النواب علي عبد العال، عرض مجموعة وثائق كانت تنوي الخبيرة الجغرافية هايدي فاروق ــ التي سبق أن عملت ضمن فريق مدير المخابرات الراحل عمر سليمان ــ بحجة أنه لا يجوز عرض وثائق تركية أو بريطانية (مع العلم بأن وثائق مشابهة سبق أن استخدمت في الثمانينيات لإثبات ملكية طابا).
في غضون ذلك، علّق المحامي خالد علي، المعروف بكونه محامي الدفاع عن مصرية الجزيرتين، بالقول إنّ مجلس النواب «مرر اتفاقية العار»، وتوجه إلى من وصفهم بأنهم «رجال الحكم والسلطة»، بالقول: «مررتم أحقر اتفاقية وُقِّعت باسم مصر ولم يوافق عليها إلا أنتم، فهنيئاً لكم بسعيكم إنزال علم مصر من على الجزر، ومنح إسرائيل نصراً وشرفاً لا تستحقه». وأضاف: «نحن، وكل المؤمنين بمصرية الجزر لنا طريقنا، ولن نيأس أو نستسلم، والمعركة بالنسبة إلينا لم تنتهِ». وفي السياق، كتب المؤرخ المصري المعارض والرافض للاتفاقية خالد فهمي، على صفحته على «فايسبوك»: «سيسجل التاريخ أن عبد الفتاح السيسي أول رئيس مصري يتنازل طواعية عن أرض مصرية بموافقة المؤسسة العسكرية المصرية التي هو جزء منها والتي لا يستقر حكمه إلا بدعمها».

المصدر: جلال خيرت - الأخبار