تأتي محاولة «حماس» لإيجاد متنفس عنها وعن سكان غزة كضرب من ضروب المراهنة المتكررة على أطراف كانت دوماً تمثل عداءً تاريخياً لها ولمشروع «الإخوان المسلمين»: مصر، الإمارات ومحمد دحلان، والأغرب أنها محاولة تجرى بعد مرور عقد على حكمها القطاع. لكنّ ضريبة ما يُدفع أمام فتات «التسهيلات» تأتي على حساب ما تبقى من علاقة تربط غزة بالضفة
لم تَضِع التسهيلات التي قدمتها حركة «حماس» إلى القيادي المفصول من حركة «فتح» محمد دحلان، وزوجته جليلة صاحبة المشاريع الخيرية المدعومةhttp://alakhbar.spiru.la/node/279056/edit إماراتياً، على مدار سنوات، هباء منثوراً. كانت الفكرة في بدايتها بسيطة، وتقضي بأن يضع دحلان قدماً له في غزة، فيما تستفيد «حماس» من ذلك بأن تغيظ رئيس «السلطة» محمود عباس، الذي كانت تمنع مناصريه من إقامة «ربع احتفال»، فيما تفتّح شهية دحلان يوماً بعد يوم، إلى أن تحوّل الحديث عن عودة سياسية له حديث الساعة.
كانت ردود «السلطة» تأتي كما تتوقع «حماس»، على صورة «ردود طفولية» على الصعيد الإعلامي، وأخرى قوية على الصعيد السياسي، مثل ضرب علاقات الحركة بمجموعة من الدول، وأخرى بإحباط محاولاتها فتح مكاتب لها في دول أخرى كإندونيسيا أو جنوب أفريقيا، وثالثة بزيادة الضغط على دول لها علاقة بـ«حماس» من أجل التأثير فيها... وصولاً إلى الإجراءات العقابية الأخيرة ضد قطاع غزة (خصم نسبة على الرواتب وإحالة موظفين على التقاعد المبكر وتخفيض ساعات الكهرباء ودعم الأدوية). ورأت الحركة في ذلك عذراً لها كي تلج «المحظور»، بالنسبة إلى كثيرين داخلها وخارجها، وهو علاقة مفتوحة برجل الإمارات الأمني، محمد دحلان، فضلاً عن خلق نمط سياسي واقتصادي جديد لغزة يذهب بها نحو مصر.
بعيداً عن فكرة المؤتمرات الصحافية، مثّل اليومان الماضيان فرصة لقيادات «حماس» في غزة للحديث صراحة وللمرة الأولى عن طبيعة الاتفاق، وأيضاً مبرراته من وجهة نظرها، وذلك على هوامش جلسات في المساجد أو في لقاءات مع الإعلاميين، لكن قياديين في بيروت يؤكدون أن كلّ ذلك مناورة لكسب الوقت أولاً، وثانياً لاستفزاز عباس كي يتنازل في ملف المصالحة العالق.
وفي مجمل ما قيل، بدا أن البدء في ملف «المصالحة المجتمعية»، الذي يشمل دفع ديّات وتعويضات للقتلى والمصابين في أحداث عامي 2006 و2007، هو المفتاح الأساسي لأيّ عودة لدحلان، لا سيما أن إغلاق هذا الملف يعني «غسل الأيدي من الدم» وانتهاء ما ينافح به كثيرون من داخل «حماس» وخارجها، باعتبار أن ذلك ممكن على نمط الاتفاق اللبناني الداخلي كما يجري التنظير له. وبالطبع، سيكون تمويل هذه العملية إماراتياً.
أما لماذا تدفع أبو ظبي في ساحة مثل غزة كانت محسوبة لسنوات على غريمتها قطر، وإلى حدّ ما تركيا؟ تأتي الإجابة من مصادر مطلعة على سير المباحثات في مصر بين كلٍّ من وفد «حماس» ومجموعة عمل دحلان والمخابرات المصرية، بالقول إن سبب ذلك، بالإضافة إلى استعداد الإمارات ــ كما يقول فريق دحلان ــ لإنشاء محطة كهرباء تُنهي مشكلة غزة، هو الرغبة الأميركية في «احتواء» القطاع، بعدما ثبت أن نزع سلاح المقاومة ليس ممكناً، وأن الضغط الجاري يثمر أكثر من الحرب، وهو الدافع (عملية الاحتواء) الذي يحرك المصريين سياسياً والخليج مالياً.
هنا، تعقّب تلك المصادر بالإشارة إلى مشروع العقوبات الأميركي رقم «H.R.2712» لفرض عقوبات متعلقة بالدعم الأجنبي للمقاومة الفلسطينية، خاصة «حماس» و«الجهاد الإسلامي»، تحت عنوان «قانون مكافحة الدعم الدولي للإرهاب الفلسطيني لعام 2017»، قائلة إن التقديرات داخل الحركة تشير إلى تصعيد كبير مقبل بما يشمل حرباً أقوى من سابقاتها، على عكس ما يدور عن فكرة الاحتواء، لكن بما لا ينفي أن الأخيرة خطوة أولى تبادر إليها أطراف عدة قبل السيناريو الأسود.
وفي سبيل ذلك، تفيد مصادر في غزة بأن وفداً برئاسة القيادي الحمساوي صلاح البردويل، وعضوية كل من روحي مشتهى وإسماعيل الأشقر، سيتوجه بعد عيد الفطر مباشرة إلى الإمارات للقاء دحلان ومسؤولين إماراتيين.
محطة في رفح
وبما أن الشياطين تكمن في التفاصيل، تذكر تلك المصادر أن مكان إقامة المحطة (غالباً ستكون على الطاقة الشمسية في شمال صحراء سيناء وتكلفتها المبدئية 150 مليون دولار) هو في صحراء مدينة رفح المصرية، وذلك ليبقى التحكم بمصير الكهرباء ووارداتها معلقاً بيد المصريين والإماراتيين، وهو ما يمثّل ضمانة للموقف المطلوب من «حماس» في السنوات المقبلة.
أما الآن وحتى إنشاء هذه المحطة، وفي ظلّ إعلان إسرائيل (أول من أمس) بدء تنفيذ قرارها «خفض إمدادات الكهرباء إلى غزة بالتدريج (بعدما أقرت الحكومة الإسرائيلية طلباً للسلطة الفلسطينية بذلك)، وذلك بواقع خفض خطين كل يوم لتشمل جميع الخطوط (شمل ذلك أربعة خطوط خلال اليومين الماضيين)، فإن الحديث الحمساوي عن شراء وقود مصري (صناعي خاص بمحطة التوليد الموجودة حالياً وسط القطاع) سيبدأ تطبيقه في الوقت الراهن، علماً بأن العملية ستكون بأسعار مخفّضة وقريبة للأسعار السابقة. وفي محاولة من السلطة لمنع هذه العملية، صدرت تحذيرات للبنوك بمنع أيّ حوالات مالية كبيرة من أيّ حساب حكومي في غزة إلى مصر.
إذاً، تبدو عملية انفصال غزة، سياسياً عن الضفة واقتصادياً عن الاحتلال، تدريجية، فكلما تبادر رام الله وتل أبيب خطوة إلى الأمام، ستجد «حماس» مبرراً يكسر الخوف لديها من الانفتاح على دحلان أكثر فأكثر. وهذا تحديداً ما عبّر عنه القيادي الحمساوي خليل الحية (نائب رئيس مكتب الحركة في غزة)، الذي تحدث عن علاقة «صداقة وأخوة» بفريق دحلان عمرها ست سنوات، وأن اللقاءات معه تأتي «في إطار استكمال الجهود الإنسانية والتكافلية بالقطاع التي بدأت منذ سنوات»، والتي كانت ترى «حماس» أنها لا تعود بضرر عليها أكثر مما تزيد غيظ عباس. وبينما قال الحية إن ملف المصالحة المجتمعية سينتهي خلال شهرين يعود بعدها قيادات محسوبة على دحلان إلى غزة بالتدريج، فإن هذه المدة هي نفسها الممنوحة للانتهاء من أعمال الصيانة والتوسيع على معبر رفح البري ليصير مناسباً لخروج ودخول الآلاف يومياً، وكذلك الشق التجاري منه. ووفق مصادر، ازدادت وتيرة العمل على المعبر منذ عودة الوفد الحمساوي من القاهرة.
وبمجرد أن ينتهي ملف المصالحة المجتمعية، الذي تشير إحصاءات لجان المصالحة السابقة إلى أن تكلفته قد تزيد على 50 مليون دولار، توجد مدة كافية لتراقب فيها «حماس» ردود فعل السلطة وكذلك مدى جدية القاهرة ودحلان في ما طرحوه. وكما تفيد مصادر في بيروت، هذا هو المبدأ الذي وافقت عليه أطر الحركة (مجلس الشورى والمكتبان السياسيان في الخارج وغزة) بشأن التفاهمات مع دحلان، إذ إنه بعد أخذ ورد، أجمعت تلك الأطر على إقرار الاتفاق «لأنه لا يوجد بديل سياسي واقتصادي مطروح»، على أن يكون تطبيقه تدريجياً مع تقارير دورية ودائمة تطّلع عليها القيادة لتعديل المسار في حال لزم.
انقسام الضفة ـ غزة
وكان لافتاً أنه منذ الأيام الأولى لعودة الوفد، تحدثت حركة «الجهاد الإسلامي» عن معالم هذا الاتفاق، قائلة إنه «ينصّ على أن يبقى الشأن الداخلي في غزة بيد حماس مقابل أن يكون لدحلان دور سياسي في العلاقات السياسية الخارجية، إضافة إلى إنهاء ملف التعويضات (المصالحة المجتمعية)»، قائلة إن ذلك ــ إذا تم ــ سيعمّق الانقسام بين غزة والضفة، وسينهي أيّ أمل لقيام دولة على حدود الرابع من حزيران.
لكن، تُجمع قيادات «حماس» على أن العائق الأساسي لإنهاء حالة الانقسام هو رئيس السلطة محمود عباس، الذي منحته الحركة أكثر من فرصة، فيما يريد، وفق تصورهم، نزع كل مكتسباتها، وطرد موظفيها الأربعين ألفاً إلى بيوتهم. نتيجة لذلك، تبقى العلاقة بدحلان «الفاشل وفق تقييم الأميركيين والإسرائيليين» طبقاً لتوصيف أحد قيادات «حماس»، أقل ضرراً على مكتسبات الحركة في غزة، خاصة أنه في أحسن السيناريوهات لن يكون للحمساويين أي شيء في الضفة، حتى لو عقدت انتخابات تشريعية ورئاسية فازت فيها بغالبية. وهذا أيضاً عامل إضافي يدفع إلى أن يبقى رئيس المكتب السياسي إسماعيل هنية، في غزة، وألا يخرج إلا لزيارات فقط، إضافة إلى عوامل أخرى منها الخروج من التحالفات الإقليمية التي أضرت علاقاتها خارجياً لسنوات، وهو ما أدى إلى إجماع حمساوي على نقل المكتب إلى غزة كما كان في عهد الشهيد عبد العزيز الرنتيسي.
وما يقف في وجه نجاح الاتفاق حالياً هو الإصرار المصري على أمرين: الأول تسليم قائمة بمطلوبين أمنيين للقاهرة، لكن «حماس» أجابت بأنها ستحاكمهم في غزة، وقبل أيام جاء الرد المصري بأن مسؤولية بقاء هؤلاء في السجون ــ حتى لو حدثت حرب وأخليت السجون ــ هي مسؤولية الحركة بدرجة أولى، والثاني إصرار المصريين على منطقة عازلة أمنياً على الحدود من الجانب الفلسطيني، وهو ما تحاول «حماس» حله بطريقة لا تضطر فيها إلى إخلاء بيوت كما فعلت القاهرة في رفح المصرية. وبشأن المختطفين الأربعة من «كتائب القسام»، لم تحصل الحركة على إجابة واضحة من المصريين سوى وعود متكررة بحلّ قضيتهم، فيما ساد تقدير لدى «حماس» بأنهم باتوا يمثّلون ورقة ضمان مصرية يمكن أن تنتهي (يتم تسليمهم) في حال تم الاتفاق.
أما السيناريو الأبعد، إذا نجح الاتفاق مع دحلان والمصريين، فهو أن تدعو القاهرة إلى اجتماع يشمل الفصائل الفلسطينية كافة ويمثل «فتح» فيه محمد دحلان، وذلك لإعادة تركيب «منظمة التحرير» من جديد، وإعطاء التشكيلة الجديدة اعترافاً أولاً يبدأ من الجامعة العربية، وذلك لكسر «احتكار شخص محمود عباس» للسلطة والمنظمة و«فتح»، على أن تكون هناك ضمانات بعدم وقوع حرب إسرائيلية على غزة، بجانب إنهاء صفقة للأسرى. ولئن كان هذا الحديث حتى وقت قريب هو ما تسرّ به المصادر المطلعة على المحادثات، فإن بيان «اللجنة المركزية لحركة فتح» الصادر بعد اجتماعها (أول من أمس) برئاسة عباس، كان كافياً لتأكيد مخاوف السلطة.
وقالت «المركزية» إن «موقفنا الثابت (هو) عدم التدخل بالشؤون الداخلية لأشقائنا العرب واحترامنا المقدس لسيادتهم... (نرفض) بعض التحركات المشبوهة ومحاولات فرض الوصاية على قضيتنا والمس بالمحرمات الوطنية وعلى رأسها استقلالية قرارنا وحقنا في صياغة النظام السياسي من خلال عملية ديمقراطية، واحترام سياجنا الوطني وبوابته الشرعية منظمة التحرير».
أيضاً، قررت اللجنة «المبادرة لإعادة صياغة علاقة الحركة مع فصائل منظمة التحرير لضمان حماية مشروعنا وتحصين جبهتنا الوطنية على قاعدة برنامج الإجماع الوطني، ومواصلة جهدنا لإنجاز وحدة وطنية فلسطينية مع حركة حماس قاعدتها وحدة الوطن والشعب والقضية والقيادة وفق برنامج إقامة الدولة في حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية (البند الذي أعلنته «حماس» أخيراً كبرنامج عمل لها)». كذلك طالب البيان «حماس بتفكيك حكومة الظل وتمكين حكومة الوفاق... وإزالة مظاهر السلطة في المحافظات الجنوبية كافة».
وفي تبرير للخطوات الأخيرة ضد غزة، قال المجتمعون إن «إجراءات السلطة في غزة تهدف إلى إنهاء الانقسام من خلال رفضها استمرار تمويل سيطرة حماس بالقوة وإجراءاتها اللاأخلاقية من خلال سوء استخدامها في رعاية حكومة الوفاق لأهلنا: سرقة الكهرباء، فرض الضرائب، بيع الدواء المرسل مجاناً، توزيع أراضي الدولة على أفرادها، إعفاء أفرادها من أي التزامات ماليةا».
وعلمت «الأخبار» أن المخابرات المصرية اعتذرت عن لقاء وفد فتحاوي برئاسة عزام الأحمد قدّم طلباً لزيارة القاهرة للبحث في ما يدور بشأن «حماس» ودحلان. على صعيد ثانٍ، أفادت مصادر مطلعة بأن الزيارة الأخيرة للقيادي في «حماس» موسى أبو مرزوق شملت ضمن جملة اللقاءات التي عقدها مع قادة لبنانيين وقياديين في المقاومة، لقاء هو الأول من نوعه مع قيادة «الجبهة الشعبية ــ القيادة العامة»، وحضر فيه الأمين العام للجبهة أحمد جبريل، من دون أن توضح نتائج اللقاء. لكن تلك المصادر قالت إن التنظيمين كانا على خلاف كبير بسبب الموقف من الأزمة السورية ومن قضايا داخلية، وإن اللقاء كان مجرد «جس نبض» لمعرفة إمكانية تصويب العلاقة مع دمشق وأفق ذلك قبل أن تبدأ أي وساطات.