ابرزت الأزمة الخليجية، في ما كشفت، أسلوباً فريداً يعتمده إعلام الخليج ونخبه في التنابز والتشاوف وإثبات «التفوّق» على الجيران. ففيما يعيّر السعوديّون قطر بمساحتها ويكنّونها بـ«النتوء الجغرافي»، يردّ القطريّون بالعزف على وترٍ حسّاسٍ، هو الآخر، في «ثقافة الجيرة»: أنّهم أكثر ثراءً من عموم السعوديّين، ومدلّلون ويعيشون حياة «خمسة نجوم»، ولا يحتاجون الى التقتير واستجداء العلاوة والبدلات (لا أفهم سبب التباهي بأن تكون باذخاً و«مدلّلاً»، ولكنهم يضيفون دوماً بأنّ ذلك كلّه هو بفضل «حكمة وليّ الأمر» وتدبيره، وليس بفضل الثروات الطبيعيّة).

بل إنّ ناشطين قطريين قد نشروا لائحة تستعرض رواتب الجنود والضبّاط في الجيش السعودي لتقارنها بما يتقاضاه الجندي والضابط القطري، وهو ــ بحسب اللائحة المزعومة ــ يفوق نظيره السعودي بأضعاف، كنوعٍ من التباهي. على الهامش: لا أفهم كيف يتوقّع القطريون من الجندي أن يدافع ويموت وهو يتقاضى مثل هذه الرواتب ويعيش مثل هذه الحياة؟ وهل هناك من أقنعهم بوجود تناسبٍ طرديّ لامتناهٍ بين دخل الجندي وفعاليته وأدائه؟ (والسؤال الثاني: إن كانوا يعيّرون السعوديين بأنهم «فقراء» ومساكين ودونهم مرتبةً، فكيف ينظرون إلينا؟).
المسألة هنا هي أنّ المال والاقتصاد هما موضوعان مهمّان بالفعل، ولكن ليس من زاوية السيارة الفخمة ومنسوب «الدلال» والاستهلاك، بل بمعنى بناء الدولة والمجتمع وضمان استمرارية النظامين ونموّهما. محمّد بن سلمان يخطو خطوته الأخيرة الى العرش فيما سعر النفط يبلغ أدنى مستوىً له منذ أيلول الماضي، وهو يتكلّم على طموحاتٍ وأهدافٍ كبيرة بينما عجز الدولة يتّسع، وقد رافق القرار الملكي بعزل محمّد بن نايف وتعيين ابن عمه وليّاً للعهد قرارٌ آخر يقضي بإعادة البدلات التي تمّ اقتطاعها من رواتب السعوديين تحت عنوان التقشّف (طارت معه نظرية تقليص العجز ووقف نزيف الاحتياطات النقدية). الطريف هو أنّ ابن سلمان لم يعد لغزاً كما في الماضي، فقد «أثبت» بالفعل أداءه في أكثر من استحقاقٍ، دخلها كلّها بحماسةٍ واندفاع، منذ تركّزت في يديه السلطات السعودية، وخسرها جميعاً: في اليمن، في سوريا، في العراق، ضدّ إيران وقطر. حتّى في المجال الاستراتيجي الأهمّ للبلد، السوق النفطي، يتّفق المحلّلون اليوم على أنّ ابن سلمان قد خسر رهانه في وجه منتجي النفط الصخري، بعد أن أغرق السوق وخفّض الأسعار وحطّم مالية بلده، ولكنّه عاد وارتدّ الى سياسة الحدّ من التصدير فيما شركات النفط الصخري لا تزال بعافيتها وتزيد من انتاجها باطّراد. النجاح الوحيد لابن سلمان، على ما يبدو، كان في استرضاء السياسيين الأميركيين وشركات الدفاع والاستشارات، وعقد الصفقات الفلكية مع الرئيس الأميركي، ليثبت أنّك، في الدول التابعة، قادرٌ على خسارة عشر حروبٍ والارتقاء الى الملك رغم ذلك، طالما أنك فزت بالمعركة الأهمّ في واشنطن.

ثمن العرش

شكّكت بعض وسائل الإعلام في الغرب في أنّ صفقة السلاح الأخيرة بين أميركا والسعودية، بأكثر من مئة مليار دولار، ستتحقّق وستكون بالقيمة التي تمّ الإعلان عنها. هذا يصحّ أيضاً على صفقاتٍ سابقة، حين وقّعت السعودية مذكرات تفاهمٍ لم يتحوّل الكثير منها الى عقودٍ مبرمة. ولكنّ معلومات جديدة بدأت ترشح، إذ كشف موقع «ديفينس نيوز»، منذ أسبوعين، عن «لائحة مشتريات» قال إن مصدرها البيت الأبيض، وهي تعدّد صفقات بأكثر من 85 مليار دولار، زُعم أن الأميركيين والسعوديين قد اتّفقوا على شرائها. بعض الأرقام مدهشة: 13.5 مليار دولار لسبع بطاريات من نظام «ثاد» للدفاع الصاروخي، و6.6 مليارات لتحديث أنظمة باتريوت الموجودة في السعودية. أي أكثر من 20 مليار دولار لأنظمة دفاع صاروخي حتى تحميهم، كما يقولون، من الصواريخ الايرانية (كامل البرنامج الصاروخي الايراني، من أبحاث وبناء مصانع وإنتاج صواريخ، كلّف جزءاً صغيراً من هذا المبلغ). هناك عقدٌ بأكثر من ستة مليارات دولار لصيانة طائرات أف ــ 15 السعودية لثماني سنوات، هذا لا علاقة له بثمن الطائرات أو الذخيرة أو كلفة التشغيل، بل مجرّد الصيانة وقطع الغيار. 4.5 مليارات دولار ثمن لذخائر للطائرات ذاتها (صدقاً، أنت قادر على إنشاء صناعة ذخائر ذكية، من لا شيء، بأقل من أربعة مليارات دولار، والسعودية ــ نظرياً ــ ليست ممنوعة عن التكنولوجيا الحديثة)، وأكثر من 18 مليار دولار ثمناً لمعدات اتصال وتحكّم وإدارة لم يتمّ تفصيلها.
الطامة الأكبر هي في سلاح البحر. ركّزت السعودية على شراء «سفينة القتال الساحلية» من أميركا لتحديث أسطولها في الخليج. «سفينة القتال الساحلية» (LCS) هي تصميمٌ جديد يعتبر من أفشل مشاريع البحرية الأميركية في السنوات الأخيرة. كانت الفكرة أن تبني أميركا سفن قتالٍ أصغر من المدمّرات، حتى لا تضطرّ إلى إرسال قطعها الضخمة الى كلّ مهمّة ثانوية؛ المشكلة كانت أنّ السفينة الجديدة خرجت وهي لا تملك تسليح المدمّرات ومناعتها (ليس فيها نظام دفاع جوي، مثلاً)، فلا يمكن إرسالها الى مياهٍ خطرةٍ، ولا هي برشاقة القوارب الصغيرة، فلا دور محدّداً لها، إلّا كهدفٍ مغرٍ للأعداء. تمّ إنزال عدد السفن التي طلبتها البحرية، منذ بدء المشروع، بأكثر من 20%، والسعودية هي الزبون الأجنبي الأول والوحيد. تعرّفتُ على «سفينة القتال الساحلية» من خلال رواية عسكرية أميركية قرأتُها، «الأسطول الشبح»، يستعمل فيها الكاتبان السفينة كمثالٍ على سوء التخطيط في الجيش الأميركي المعاصر، وعلى بناء منصّات حربية تجلب الأرباح الى المتعهّدين ولكن لا قيمة عسكرية لها. المشكلة هي أنك حين تسرد هذه الأمور والأرقام، يبدو الأمر بالفعل وكأنّك متحاملٌ على الحكومة السعودية وحاقدٌ على نظامها (وهذا صحيح بالطبع، ولكن هذه حقائق). في تقريرٍ لموقع «ذا فيرج» الأميركي عن الصفقة، يكتب جوزف تريفيتشيك مستغرباً أن السعوديين، حين فاتحوا الأميركيين بموضوع شراء السفن منذ سنوات، وإضافة أنظمة دفاعية اليها، تراجعوا حين طُلب منهم سعرٌ يقارب 750 مليون دولار لـ«القطعة الواحدة». ولكنّ ابن سلمان، يقول الكاتب، وافق اليوم على شراء هذه الفرقاطات بسعر 1.5 مليار دولار للنسخة الواحدة، أي ضعف الرقم «المرتفع» الذي رفضته إدارة الملك عبدالله (البحرية الأميركية تشتري الفرقاطة من طراز «ليبرتي»، الأقرب الى النموذج السعودي، بحوالى 380 مليون دولار). المسألة هي أنّك لو أضفت قليلاً الى الكلفة، يصبح بوسعك شراء مدمّرة أميركية من طراز «ارلي ــ بيرك» (تشتريها البحرية الأميركية بـ1.8 مليار دولار)، أقوى سفن السطح في العالم ــ أو غواصة نووية مثلاً. هذه السفن السعودية ستحمل صواريخ «هاربون»، أي السلاح ذاته الذي يستخدمه السعوديون حالياً، ونظام محدود للدفاع الجوي لا يزيد مداه على 50 كيلومتراً. ونحن في عصرٍ أصبحت الفرقاطات فيه، بل حتى الكورفيت (كما في حالة روسيا)، تحمل صواريخ «كروز» وأنظمة قتال بعيدة المدى. الى جانب «المعدات الكبيرة»، ستشتري المملكة عشرات زوارق الدوريّة الخفيفة «مارك VI»، وهي زوارق سريعة أشبه بقوارب النزهة، تسليحها الأساسي مدفعٍ رشاش من عيار 25 ملم، ولكن ثمنها، بشكلٍ ما، قد وصل الى أربعين مليون دولارٍ للقارب الواحد!

على المقلب الآخر

ولأن القادة السعوديين مهووسون بإيران، فإنّ المقارنة واجبة. حين أطلقت طهران صواريخ «ذو الفقار» ضدّ أهدافٍ في محافظة دير الزور، ووثّقت بالفيديو الصواريخ وهي تضرب أهدافها، فإنّ ذلك لم يكن حدثاً بسيطاً. الضربة كانت «إثبات قدرة»، وقد استخدمت إيران صواريخ «قصيرة المدى»، أثبتت أنها قادرة على ضرب أهدافٍ بدقّة على بعد مئات الكيلومترات («ذو الفقار» تطويرٌ لصاروخ «الفاتح»، وهو ليس أكبر بكثير من صاروخ الراجمة الثقيلة، ويمكن حمله ــ أو حمل اثنين أو ثلاثة منه ــ على متن شاحنة متوسّطة الحجم، ومداه يفوق مدى «شهاب ــ 2» القديم، مثلاً، رغم أن حجمه أصغر بكثير). الأمر الآخر هو أنّ الضربات الصاروخية رافقها تصويرٍ مستمرٌّ من الجوّ، نفّذته طائرات مسيّرة توازي تلك التي تستخدمها أميركا وإسرائيل (تطير على ارتفاعات عالية نسبياً وتظل مدة طويلة في الجوّ وتحمل أسلحة هجومية)، وهي أصبحت موجودة بكميات وافرة في ترسانة إيران وحلفائها ــ أسقطت أميركا، في الأسابيع الماضية، نموذجين منها فوق سوريا. في الوقت نفسه، أفرج التلفزيون الايراني ــ يوم الضربة ــ عن شريطٍ صوّر منذ زمنٍ يُظهر أنظمة الدفاع الجوي الايرانية الجديدة فيما يجري اختبارها، وعلى رأسها «بافار 373» البعيد المدى (وهو لا علاقة له بـ«اس ــ 300» كما قيل في الماضي، بل مبنيّ على تطويرٍ جذريّ لصاروخ «ستاندارد» الأميركي مع رادارات جديدة).
الفكرة هنا هي أنّ هذه القدرات (الضرب من بعيد، الاستطلاع خلف الحدود، الدفاع الجوي البعيد المدى) هي التي تصنع الفارق بالمعنى التكنولوجي، والتي تحاول القوى الكبرى ــ عبر الاحتكار التقني ــ منعها عن الدول الصغيرة. أميركا تبيع السعودية أسلحة بمئات مليارات الدولارات ولكنها ترفض، الى اليوم، تزويدها بصواريخ «توماهوك» مثلاً (مع أنها تكنولوجيا قديمة) أو طائرات مسيّرة بعيدة المدى، أو حتى ذخائر متطورة لطائراتها، تسمح لها بضرب أهدافٍ من خلف مدى الدفاعات الجوية ــ أي إن الطائرات السعودية لن تتمكّن، رغم كلّ هذه الصفقات، من ضرب خصومٍ ذوي شأنٍ من دون معونةٍ أميركية. الميزانية الدفاعية لإيران تقلّ عن عُشر مثيلتها في السعودية، وهم تمكّنوا، رغم الحصار والعداء الأميركي، من صنع هذه الأسلحة بأنفسهم، وأصبحت تقنيتها ملكاً لهم.

«ترامب الصحراء»

نظرية الباحثة كيرن شودري عن السعودية هي أنّها بلدٌ يختلف عن «الكيانات الاستعمارية» في الشرق الأوسط. الحدود السعودية خطّها أساساً (رغم الدور الاستعماري) أمراء حربٍ بارعون، حصّلوا دولةً عبر الغزو والضمّ (على الطريقة الأوروبية)، وعرفوا كيف يحشدون القدرات المقاتلة في المجتمع ويتفوّقون على خصومهم. من «المحزن» (وإن كان الأمر قطعاً في صالحنا) أن تُصبح هذه الدولة ذات الجذور الحربيّة زبوناً أعمىً لشركاتٍ ودولٍ تستغلّها، ولا تقدر على صيانة دبّابةٍ من دون مرتزقٍ أجنبي. كما تحكم الدورة الخلدونية فإنّ السلالات، بعد أجيالٍ، قد تنسى سرّ بناء الدول.
انهيار الأنظمة، في الأغلب، لا يأتي فجأةً، بل هو نتاج سنوات طويلة من السياسات الخاطئة ومراكمة المآزق، وحين يأتي موعد الانهيار، لا يهمّ كثيراً أن يكون الحاكم الأخير كفؤاً أو متسيّباً كأجداده. مروان بن محمّد، آخر الخلفاء الأمويين، كان من أكثر أبناء سلالته كفاءةً وحكمة، ولكنّ ذلك لم يصنع فرقاً، لأنه جاء في زمن الانحدار. لمن سخر طويلاً من ترامب، فإنّ محمّد بن سلمان ليس إلّا نسخة عربية (أقلّ سنّاً وحكمةً) عنه. هو مثله لا يملك تدريباً أو تراثاً أو خبرةً في السياسة، قبل أن تقذفه الأقدار الى موقع المسؤولية (حتّى أصبح سلمان ملكاً، كان ابنه فعلياً تاجراً مشغولاً بِعدّ الأموال). وهو مثل ترامب شديد الثقة بنفسه وبـ«رؤيته»، وبدلاً من أن يتواضع ويتعلّم، فهو جاء مع خطّةٍ جذريّة يودّ فرضها على بلده ــ مع فارق أنّ هناك مؤسسات وقوانين تحدّ من سلطات ترامب وجموحه. من هنا فإنّ ابن سلمان، بالمعنى التاريخي والأدبي، هو من حيث لا يعلم الشخصية المثالية للعب دور «الملك الأخير».

المصدر: الاخبار