ردود الفعل على واقعة منع إدارة منتجع «ميرامار» إحدى النساء المحجبات من السباحة في البحر بسبب ارتدائها «البوركيني»، تعكس الانفصام الذي يعانيه المجتمع اللبناني، إلا أنها تعكس قبل كل شيء القوّة التي اكتسبتها هذه الأشكال من «المنغلقات» الطبقية والثقافية، القائمة على استبدال الحيّز العام بحيّز خاص، يخضع لشروط خاصة تتعارض مع النظام العام وتغلّب المصالح الربحية على القيم المشتركة وحقوق المواطنين في الانتفاع المتساوي من الملك العام... هذه الواقعة أظهرت أن التمييز الممارس في المنتجعات البحرية ضد العاملات في الخدمة المنزلية وذوي البشرة السمراء يشمل أيضاً النساء المحجبات أو المحافظات
منذ أيام قليلة، مُنعت نورا الزعيم من السباحة في البحر بسبب ارتدائها «البوركيني»، وفق ما قالت في منشور لها على صفحتها على «فايسبوك». وبحسب روايتها، فإنها وزوجها قررا أن يمضيا أياماً عدّة على الشاطئ برفقة ابنهما البالغ من العمر سنة ونصف سنة، وحجزا غرفة لهم في منتجعMiramar Hotel Resort and Spa بكلفة 250 دولاراً لليلة الواحدة.
وقالت إنها استعدّت لذلك واشترت البوركيني، وهو لباس مخصّص للسباحة «بس مستّر»، بحسب تعبيرها. ولكنها فوجئت عند نزولها مع ابنها الى مياه البحر بإبلاغ زوجها عبر عاملين في المنتجع: «ممنوع المدام تنزل عالمي»، بحجة أن «قانون» المنتجع الخاص لا يسمح بالسباحة إلا بلباس البحر (المايوه)، وبالتالي قررت إدارة المنتجع أن البوركيني ليس لباساً مخصّصاً للسباحة، واقترحت على نورا وعائلتها استعمال المسبح الداخلي «حيث لا تصل الشمس إليه ويخلو من الناس».
ردود فعل متناقضة
أثارت هذه الواقعة ردود فعل متناقضة في المجتمع اللبناني، وانقسمت الآراء والمواقف على شبكات التواصل الاجتماعي، إذ أيّد البعض إجراءات المنتجع بوصفه حيّزاً خاصاً يخضع لأمزجة رواده (الزبائن)، فيما استنكرها البعض الآخر كونها تناقض مبادئ المساواة وتنتهك الحريات الشخصية، ورأى فيها ممارسة تمييزية تنطوي على «عنصرية» تجاه المرأة المحجّبة، كما هي الحال في منع ذوي البشرة السمراء أو العاملات في الخدمة المنزلية من السباحة في معظم المنتجعات. وعبّر البعض أيضاً عن رفضه لمثل هذه الاجراءات كونها تحصل على «ملك عام»، حيث القانون العام يضمن الولوج الحر الى البحر. كذلك عبّر البعض عن رفضه مبدأ ارتياد النساء الشواطئ المختلطة لأسبابه الدينية، وهو ما حاولت إدارة المنتجع استخدامه في سياق تبرير إجراءاتها، إذ اعتبرت أنها تقوم بمهمة «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، في لهجة تهكّمية واضحة... في الحصيلة، بقيت ردود الفعل محصورة في نطاق محدود، ولم تتحول الى قضية «رأي عام» ضاغطة، فضلاً عن أنها لم تفتح نقاشاً يرمي الى بناء موقف «موضوعي» يرتكز على مفهوم احترام «النظام العام» و»القيم المشتركة»... ولكنها، على الرغم من ذلك، أظهرت بعض وجوه الانفصام في الثقافة السائدة والانهيار شبه الكلي لمفهوم «الحيّز العام» والتراجع المقلق في حسّ الدفاع عن «الحقوق المدنية» و»الحرية الشخصية».
لماذا الخوف من البوركيني؟
بداية، البوركيني هو عبارة عن بدلة سباحة تغطي كامل الجسم ما عدا الوجه واليدين والقدمين، وهي مطاطية بما يكفي للمساعدة في السباحة. والصدفة، أن مصمّمة هذا اللباس هي عايدة مسعود زناتي، المهاجرة الاسترالية المنحدرة من مدينة طرابلس في شمال لبنان، أي من المكان نفسه الذي يقع فيه المنتجع المذكور. يُعتبر البوركيني بمثابة حلّ للنساء المحافظات اللواتي يرغبن في ممارسة السباحة في الأماكن العامّة المختلطة، ولا يختلف، في الشكل على الأقل، عن لباس الغطس، وهو قريب جداً من اللباس الذي ترتديه المحترفات في رياضة السباحة. وقد بدأت شركات كثيرة بتسويق البوركيني كخيار إضافي للنساء، على غرار البيكيني والميكروكيني والمونوكيني وغيرها من أزياء البحر.
هذا «الخوف» من البوركيني الذي يخيّم على أوروبا، ليس من المفروض أن يكون هو نفسه الذي يحرّك الحظر الممارس ضده في معظم المنتجعات البحرية في لبنان، والعديد من الدول العربية ذات الغالبية المسلمة والمحافظة (كمصر مثلاً حيث نشر ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي في عام 2015 لائحة بأسماء 35 منتجعاً يحظر البوركيني). لا شك في أن التقليد الثقافي المبتذل لما هو قائم هناك يلعب دوره هنا، ولكن العوامل المحرّكة للحظر تبدو أكثر اتصالاً بما تمثله المنتجعات البحرية، كشكل من «المنغلقات» القائمة، التي تفرض شروطها وفقاً لمعايير الربحية وتستبدل «الحيّز العام» بـ»حيّز خاص» لفئات محددة تسعى الى التمايز، سواء طبقياً أو ثقافياً.
منغلقات بديلة من الحيّز العام
تنتشر على طول الشاطى اللبناني مئات المنتجعات والفنادق والمسابح والمطاعم، وهي تستولي على كل الاماكن الصالحة للسباحة تقريباً، وبالتالي لم يعد هناك مطارح كثيرة تسمح للناس بارتيادها بحرية تامة ضمن ما يفرضه «النظام العام». بمعنى، ان ارتياد البحر، على الرغم من أنه ملكاً عاماً في القانون، بات يخضع لشروط خاصة، تنطوي غالباً على تمييز فاقع يفضي الى حرمان الأكثرية من حقها في الولوج الحر والمجاني الى البحر، وهو مبدأ منصوص عليه في القانون أيضاً.
ما حصل مع نورا الزعيم وعائلتها في منتجع «ميرامار» ليس إلا نموذجاً عمّا يحصل في معظم هذه المنتجعات البحرية، إذ تُفرض بدلات مالية مرتفعة جداً، أو تُمنع العاملات في الخدمة المنزلية من السباحة، أو يُمنع ذوو البشرة السمراء من الدخول... هذه الممارسات العنصرية المعروفة لم تُثر أي ردود فعل، إلا من قبل بعض حملات المنظّمات غير الحكومية، وقد يكون ذلك متوقعاً في مجتمع يسوّغ إقصاء النساء والفقراء والعمال الأجانب واللاجئين وسائر المهمّشين، إلا أنه غير متوقع في حالة حظر سباحة المحجبات بالبوركيني في البحر، خاصة أن واقعة «ميرامار» كشفت أن العدد الأكبر من المنتجعات يمارس هذا الحظر، وقد عمد بعضها، بعد إثارة واقعة نورا، الى تخصيص يوم محدّد في الاسبوع يسمح فيه بارتداء البوركيني، على غرار تخصيص أيام محددة للنساء فقط!
النظام العام لا يلغيه النظام الخاص
وسط كل ذلك، تستنكف «الدولة» عن تأدية دورها، ولا سيما لجهة فرض النظام العام؛ فقد رفض وزير السياحة، افيديس كيدانيان، التعليق على واقعة حظر البوركيني، واكتفى في اتصال مع «الأخبار» بالقول إنه ليس لديه أي تعليق في هذا الخصوص.
لا ينحصر دور الدولة في ضمان «المنفعة العامّة» من الملك العام، ولا سيما الشاطئ والبحر، بل في ضمان أن يتجاوز أي نظام خاص حقوق المواطنين الدستورية والقانونية. ينطلق رئيس نقابة أصحاب المنتجعات البحرية، جان بيروتي، في دفاعه عن إجراءات المُنتجع المذكور، من مسألة «حق المنتجع في وضع نظمه الخاصة، التي تنسجم وخلفيات الزبائن وأمزجتهم»، ثم يثير مسألة «القوانين المتعلقة بالسلامة العامة التي تنصّ على ارتداء المايوه». أمّا إدارة المنتجع فتعطي نفسها الحق في مناقشة معتقدات المرأة، وتقول حرفياً: «إذا كانت هي محجّبة، وإذا أردنا مناقشة الجانب الديني، فإن سباحتها في المسبح الخاص بالنساء أو المحجبات أفضل لها، لأن الدين يحظر عليها رؤية عورات الرجال». وتُضيف: «إذا كانت هي محافظة، فنحن عبر إجرائنا هذا نقوم بالمحافظة عليها أكثر».
هذا الدفاع، كما ردود الفعل على الإجراءات، تثير جملة واسعة من الإشكاليات على غير مستوى وصعيد.
يقول وزير الداخلية السابق المحامي زياد بارود إنه يجب التمييز بين الملك العام والقاعات التي تقع ضمن الاملاك الخاصة، لافتاً الى أن الشروط التي تضعها مؤسسة خاصة على رواد الملك العام تتعارض مع النظام العام الذي يكفل الحرية في الوصول والولوج الى البحر أمام جميع المواطنين بشكل حر. ينطلق بارود من هذه النقطة ليُشير الى أن المؤسسات الخاصة لا يحق لها فرض شروط من ناحية اللباس على العامة، مشيراً الى أن هذا الأمر (فرض الشروط) يكون في حالة المُنتسبين الى نادٍ كمجموعة مثلاً أو في حال كانت المؤسسة الخاصة تنص منذ البداية، وبشكل واضح، على ضرورة ارتداء زيّ محدد، وأن هذا الامر يبقى محصوراً بارتياد القاعات التي تقع ضمن المُلك الخاص ولا تشمل الملك العام أو أيّ حيّز طابعه عام.
تبريرات تنطوي على تمييز
إذاً، حظر البوركيني على الشاطئ هو مخالف للنظام العام، وكان يُفترض بالدولة أن تتدخل في هذه الحالة لا أن تمارس «النأي بالنفس»، كذلك فإن الموقف من الحظر كان يُفترض أن يكون مناسبة لتأكيد حقوق الناس المتساوية بالولوج الحر الى الملك العام.
أمّا التذرّع بحجة تأمين «شروط السلامة العامة التي تفرض ارتداء المايوه»، فهو حجّة ساقطة، لكون البوركيني يؤمّن هذه الشروط، وهو مصمّم لهذا الغرض. يقرّ بيروتي بهذه الحقيقة، إلا أنه يردّ بقوله: «تعي اقنعي الناس إنو هيدا مايوه مش تياب»، ويلجأ لتوضيح فكرته الى مثال يجسّد صلب الموضوع: «سيكون صعباً إقناع الزبائن بأن من يعاني من بقعة مشوّهة على جسده يحق له السباحة أيضاً». بهذا المعنى، يصل المنطق الذي يبرر فيه بيروتي إجراءات المنتجع الى حدّ اعتبار نزول المرأة المحجبة للسباحة يشبه نزول مصاب بمرض جلدي ظاهر للسباحة، وبالتالي يرى بيروتي أن الحالتين تثيران هلع الرواد وتؤثران سلباً على أعمال المنتجع وربحيّته؛ فلباس البوركيني، برأي مؤيّدي الحظر، هو «تشويه» يؤذي النظر. يذكّر بيروتي بأن هناك مسابح مخصّصة للنساء، ويمكن للفتيات المحافظات الذهاب إلى هناك.
تصرّ إدارة منتجع «ميرامار» على أنها لم تمنع نورا الزعيم من السباحة في المنتجع: «أخبرناها بأن لدينا مسبحاً خاصاً للمحجبات اللواتي يرتدين البوركيني»، مُشيرة الى أن نورا أصرّت على السباحة في المكان المخصّص للمايوه فقط. تقول الإدارة إن النظام الداخلي للمنتجع واضح في هذا الأمر، مُشيرة الى أن «جميع المنتجعات المجاورة تطبّق هذا النظام». في المناسبة، وفق رواية نورا، المسبح الخاص بالمحجبات هو نفسه المسبح الداخلي الذي يبعد عن الشاطئ ولا تصل اليه الشمس. أما إصرارها على السباحة على الشاطئ فهو «من أجل أن تسبح مع ابنها وزوجها في البحر».