تتواتر تصريحات المسئولين العراقيين، سياسيين وأمنيين، بقرب إعلان تحرير مدينة الموصل بالكامل خلال الأيام المقبلة، ومنهم من استبق الحدث بإعلان النصر على تنظيم "داعش" لدى تفجيره جامع النوري الكبير الذي يشكل قيمة رمزية كبيرة للتنظيم، باعتباره الموقع الذي شهد الإعلان عن ما يسمى بـ"دولة الخلافة"  قبل ثلاث سنوات. 

ورغم الإدانات الواسعة لحادث التفجير لكون المسجد يمثل أحد المنارات الأثرية في العراق، فقد وُظِّف الحدث كذلك باعتباره مؤشرًا لنهاية التنظيم، خاصة أن ما تبقّى من مواجهات ضده هو تحصيل حاصل لنتيجة باتت محسومة.

 وفي حين تتبقى هناك معركتان ضد التنظيم في غربي نينوى في تلعفر والحويجة؛ فإن عملية إعلان تحرير الموصل تبقى هى العملية الأكبر ضمن سلسلة عمليات سابقة شنتها القوات العراقية المشتركة على مدار السنوات الثلاث السابقة في تكريت والرمادي والفلوجة.

وتشير معظم هذه العمليات إلى وجود إشكاليات عديدة في مرحلة ما بعد تحريرها، لا سيما بالنسبة للموصل بالنظر إلى خصوصيتها الجغرافية والديموغرافية والجيوستراتيجية، خاصة وأنه بإعلان انتهاء العمليات العسكرية وطيّ صفحة سيطرة "داعش" على الأرض، ستظهر تلك التحديات التي ربما تتجاوز الموصل إلى العراق بأكمله.

وفي هذا الإطار، يمكن رصد عشرة تحديات قد تواجه الدولة العراقية بعد نهاية معركة الموصل، وتتمثل في:

1- "متلازمة الاستنساخ": وتعني القدرة على إعادة الإنتاج لتلك التنظيمات في بيئة مفعمة بمسببات البقاء لمثل هذه التنظيمات، حيث تطرح اتجاهات عديدة في هذا السياق سؤالا حول مدى إمكانية اعتبار هزيمة التنظيم في الموصل نهاية فعلية له. ومن دون شك، فإن الإجابة على هذا السؤال تحتاج إلى قراءة خاصة بشأن مآلات التنظيم فيما بعد الموصل في ظل التجارب السابقة، خاصة تجربة تنظيم "دولة العراق الإسلامية" الذي أسسه أبو مصعب الزرقاوي، والذي يعتبر بعض قادة "داعش" أنه امتداد له، بشكل يشير إلى أن هناك معركة أخرى لا تقل أهمية تتعلق بماكينة الفكرة "الداعشية" في حد ذاتها التي يمكنها إعادة إنتاج التنظيم مستقبلا إن لم تعالج المشكلات التي تسببت في مشهد سقوط الموصل، وأبرزها الصراعات السياسية والمذهبية والفساد ومشروعات التقسيم والتفتيت بتداعياتها المختلفة.

2- تحدي معالجة آثار الكلفة البشرية: قُدّرت الكلفة البشرية في الموصل منذ استيلاء "داعش" عليها وخلال معركة التحرير حتى منتصف مايو 2017، وفقًا لتقديرات دولية ومنها تقديرات الأمم المتحدة، بنحو 15 ألف قتيل، و25 ألف جريح، و150 ألف نازح، وآلاف المتغيبين، وآلاف الجثث التي لم تُنتشل.

 وتحمّل التقارير المسئولية الكبيرة عن هذه الخسائر البشرية لتنظيم "داعش"، لكنها لم تعفِ الحكومة العراقية وميليشيا "الحشد الشعبي" وقوات التحالف أيضًا من المسئولية ذاتها خلال العمليات التي دامت نحو 9 أشهر.

 وقد رصدت تقارير الأمم المتحدة انتهاكات واسعة كررتها ميليشيا "الحشد الشعبي" في عملية الموصل رغم التحذيرات الأممية والدولية المسبقة، خاصة ضد الطائفة السنية. وشملت الانتهاكات عمليات تصفية خارج القانون في صفوف المدنيين، وحالات نهب واسعة، فضلا عن حملات اعتقالات بدعوى الانتماء للتنظيم، بالإضافة إلى عمليات ترحيل انتقامي ممنهجة تمارسها تلك الميليشيا في الموصل لأهداف تتعلق بإعادة تشكيلها ديموغرافيًّا.

وفي نهاية مارس 2017، قالت المفوضية الأممية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة إنها ترحب بإجراء تحقيق دولي حول الخسائر البشرية التي شهدتها العراق، على أن تشمل كافة التحقيقات والحوادث. فيما يشكل فشل تجارب التعويضات والمصالحة الوطنية أحد التحديات الكبيرة التي ستواجه الحكومة العراقية في القريب العاجل.

3- أزمة الهوية: تشكل محافظة نينوى بشكل عام تنوعًا اجتماعيًّا خاصًّا متعدد الطوائف والأعراق، وقد تعرض في ظل سيطرة التنظيم لانتهاكات واسعة شكلاً ومضمونًا. فبالإضافة إلى الانتهاكات التي مُورست ضد تلك المكونات من مسيحيين وأيزيديين وتركمان، وهو ما اضطر أغلب تلك الطوائف إلى النزوح من مواطنهم، فقد قام التنظيم بتدمير هوية الموصل، وآخرها مسجد النوري الكبير الذي يمتد تاريخه إلى أكثر من 8 قرون. وقبل ذلك، قام التنظيم بتدمير الآثار في الموصل، ومنها متحف الموصل الحضاري، وآثار مدينة النمرود التاريخية.

وإجمالا، ووفق وزارة الآثار العراقية وأثريين من الموصل، فقد دمر التنظيم نحو 90% منها تقريبًا، وقد دمر بعضها بحجة دعايات متطرفة، والكثير منها تمت سرقته وتهريبه إلى خارج البلاد باعتبار ذلك أحد روافد تمويل التنظيم.

4- الاستحقاقات السياسية: وهى استحقاقات عديدة بالنظر إلى مشروعات القوى السياسية والأمنية التي شاركت في عملية التحرير، والتي تعتبر أنها يجب أن تحصل على مكاسب سياسية في ظل تلك المشاركة، مثل القوى الكردية التي ستجري عملية استفتاء على الاستقلال في سبتمبر المقبل.

 ورغم عدم قبول الحكومة الاتحادية، فضلا عن العديد من القوى الدولية والإقليمية، بهذا الإعلان من جانب حكومة إقليم كردستان، إلا أن المؤشرات الراهنة تشير إلى أن الاستفتاء سيتم من جانب واحد؛ حيث تعتبر حكومة كردستان الأمر في حكم المنتهي في ظل ترسيم "حدود الدم" التي أعلن عنها زعيم الإقليم مسعود برزاني، وربما سيتضح هذا التحدي بوضوح بعد انتهاء عملية تحرير تلعفر المرتقبة بعد إعلان تحرير الموصل.

5- وضع "الحشد الشعبي": ترى ميليشيا "الحشد الشعبي" أنها القوة الرئيسية التي ساهمت في عملية تحرير الموصل، وهو ما يستوجب، في رؤيتها، منحها صلاحيات واسعة في الموصل وباقي المواقع المحررة بعد انتهاء العمليات العسكرية، لن تقتصر على الجانب الأمني، بل ستمتد إلى الجانب السياسي على اعتبار أن معظم الميليشيات المكوِّنة لـ"الحشد" هى ذراع عسكرية لقوى سياسية حزبية ودينية، وبالتالي ترجح اتجاهات عديدة أن تسعى ميليشيا "الحشد" إلى ممارسة دور في المستقبل السياسي والأمني، ليس للموصل فقط، بل وفي مستقبل العراق ككل بتوليها مسئوليات الأمن الشامل في البلاد.

6- الترتيبات الإدارية: إلى جانب الاستحقاقات السياسية الكبيرة تجاه الموصل، هناك استحقاقات محلية لدى القوى القبلية والعشائرية في الموصل، والتي ترى أنها مارست دورًا في عملية التحرير، مثل قوات "حرس نينوى" التي شهدت مؤخرًا عملية استبعاد من القيادة المشتركة لـ"الحشد"، وهو ما يُمثل نقضًا للتفاهمات بين رئيسها أثيل النجيفي ورئيس الوزراء حيدر العبادي، وهى في أغلبها مكون سني كبير ترى أنها دفعت ثمن سيطرة "داعش"، ولن تقبل بدفع الثمن مرة أخرى بتجاهلها من جانب الحكومة، بل إنها لن تقبل بأن تكون ثمنًا لإرضاء طموحات القوى الشيعية التي تتهمها بأنها كانت حاضنة لـ"داعش".

7- المشروعات الإقليمية: مع إعلان "النصر" على "داعش"، وقرب انتهاء العمليات العسكرية في العراق، صرح الرئيس الإيراني حسن روحاني بأن "إيران شريك في الانتصار في العراق"، وبالتالي من المتوقع أن تكون لهذه الشراكة استحقاقاتها المطلوبة في المرحلة المقبلة أيضًا.

 وهنا يُطل المشروع الإيراني في التمدد نحو شرق المتوسط الذي يخترق كلاًّ من العراق وسوريا، وبما أن ميليشيا "الحشد الشعبي" الممولة إيرانيًّا هى التي سيخول لها مهمة الانتشار على الحدود العراقية مع سوريا والأردن في الغالب، فإن ذلك سيسهل على إيران تلك المهمة.

 وإضافة إلى ذلك، هناك المشروع التركي، حيث ترى أنقرة أن لديها دورًا في معارك الموصل حجبت عنه بضمانات تتعلق بهوية المنطقة ذات الأغلبية السنية، وبالتالي فإنها في ظل حضور القوى الشيعية في مشهد ما بعد الموصل ستطالب بالتدخل، ومن المرتقب أن يحدث ذلك قريبًا في ظل الخلاف بين الحكومة وأثيل النجيفي المدعوم من تركيا، بالإضافة إلى أن عملية تلعفر القادمة ستشهد تجدد الخلاف ذاته. فضلا عن اتجاه إقليم كردستان بعد نهاية العمليات إلى الاستفتاء الذي تعتبره تركيا "خطأ فادحًا"، على حد قول الرئيس رجب طيب أردوغان، باعتباره تهديدًا لبلاده.

8- الترتيبات الأمريكية في العراق: مارست الولايات المتحدة الأمريكية دورًا بارزًا وأساسيًّا في توجيه المعارك العسكرية في الموصل، وزادت من قواتها ودعمها للقوات العراقية، وأعادت تأهيل قاعدة "القيارة" قبل انطلاق العمليات كبديل لقاعدة "إنجرليك" التركية التي كانت تستخدمها قبل أزمة الانقلاب الفاشل الذي شهدته تركيا وأثر على العلاقات مع الولايات المتحدة، ومن ثم فإن دور واشنطن، التي تُبدي ملاحظات مسبقة على الخطط والمشروعات السياسية المحتملة بدعوى العمل على الاستقرار في العراق مستقبلاً، سيشكل تحديًا، وذلك في ظل المشروعات المحلية المحتملة أو المشروعات الإقليمية التي تطرح نفسها على الساحة في العراق.

9- إعادة الإعمار: وهو تحدٍّ مزمن في العراق أيضًا في ظل تجارب ما بعد الاحتلال الأمريكي. وفيما يتعلق بالموصل، رصدت تقارير حكومية دمارًا شبه كامل في البنية التحتية في الموصل، يشمل تدمير خمسة جسور رئيسية، والمحطة الرئيسية للكهرباء، ومحطات ضخ المياه، وجامعة الموصل، و241 مدرسة ابتدائية وثانوية، و10 مستشفيات و76 مركزًا صحيًّا، ومعمل أدوية نينوى، و81 دار عبادة، وأبراج الاتصالات، و1800 معمل وورشة ومصنع حكومي، ومصفاة للنفط، و6 أندية رياضية، و54 مبنى حكوميًّا خدميًّا، و29 فندقًا، ومعملاً للكبريت، و21 ألف وحدة سكنية، ومعامل الغزل والنسيج، ومعمل الإسمنت، ومصنع الحديد والصلب، و11 مصرفًا ماليًّا، ومعامل السكر، وآبار النفط، وهو ما يُمثل 60% من الأحياء السكنية، و80% من البنية الأساسية.

 وتُقدر وزارة التخطيط العراقية أن الموصل وحدها ستحتاج إلى 11 مليار دولار للإعمار من إجمالي 100 مليار دولار لمشروع الإعمار الشامل، وذلك خلال عشر سنوات، وهو تحدٍّ كبير بالنظر إلى عجز الميزانية لدى الحكومة العراقية والديون التي تُقدر بنحو 110 مليارات دولار. وبينما لم تتمكن الحكومة من إعادة إعمار المناطق المحررة في السابق، يبقى تحدي الانطلاق في مشروع الموصل محل شكوك.

10- مشروعات التقسيم: هناك العديد من سيناريوهات التقسيم التي تُطرح بقوة على الساحة العراقية بخصوص عدم الإبقاء على نينوى كإقليم كبير بهذا الحجم. وقد تنوعت المشروعات بين تقسيم المحافظة إلى ثلاث أو خمس محافظات لتفتيتها، بدعوى أن بقاءها بهذا الحجم سيظل يشكل خطرًا على العراق. وربما تعزز المؤشرات القائمة خاصة في ظل مشروع ضم مناطق جديدة لإقليم كردستان، من إمكانية تحقق هذا السيناريو.

وفي النهاية، ربما يمكن القول إن أزمة سقوط الموصل في يد تنظيم "داعش" لم تكن وليدة بيئة خاصة في الموصل فحسب، بل بسبب تداعيات مراحل طويلة من الصراعات المركبة والمعقدة محليًّا وإقليميًّا في المشهد العراقي بشكل عام على مدار أكثر من 16 عامًا منذ سقوط نظام صدام حسين. ومع استمرار التأزم في الحالة العراقية، يبقى من الصعب القول إن وضع حدٍّ لأزمة سيطرة تنظيم "داعش" على أكثر من ثلث الدولة العراقية يمكن أن ينهي مشكلات العراق بشكل عام، وينقلها إلى مستقبل مختلف يطوي صفحة الماضي دون معالجة المسببات الكلية لمثل هذه الأزمة وغيرها من الأزمات.

المصدر: المستقبل للدراسات