شهدت جولة محادثات «أستانا ــ 5» في يومها الثاني والأخير أمس، محاولات ابتزاز تركية واضحة تهدف إلى ضمان دخول وحدات من قواتها العسكرية إلى مناطق من إدلب وريف حلب. وبالتوازي، طرح نقل ملف المنطقة الجنوبية إلى إطار تفاوض أميركي ــ روسي، احتمالات جديدة حول إمكانية تعزيز النفوذ الأميركي هناك

بعد شهرين على خروج المقترح الروسي بإنشاء «مناطق تخفيف التصعيد» إلى العلن وتحقيقه لتغييرات ملحوظة في الميدان السوري، وصل أمس خلال الجولة المنتهية من محادثات أستانا إلى نقطة تحول مفصلية، سيتطلب صموده بعدها جهداً روسياً مكثفاً مع كامل الأطراف المعنية بالملف السوري. فالبلدان الثلاثة الضامنة لم توقع أية وثائق إضافية تتضمن تفاصيل وآليات عمل مناطق «تخفيف التصعيد»، مكتفية بتوافق على استكمال جولات نقاش تقنية حولها في طهران، مطلع آب المقبل.

وتشير المعطيات الواردة من كواليس المحادثات إلى أن الخلافات التي شهدها اليوم الأول حول منطقتي «تخفيف التصعيد» الملاصقتين للحدود الجنوبية والشمالية، تكرّست أمس، وسط أنباء عن تحييد منطقة الجنوب (تضم أجزاءً من درعا والقنيطرة والسويداء) عن أجندة البحث في العاصمة الكازاخية، وتحويلها إلى ملف تبحثه موسكو مع كل من واشنطن وعمّان. وفي المقابل، بدت أنقرة حريصة على تحصيل اتفاق يشرعن دخول قواتها إلى المنطقة الشمالية (تضم أجزاء من إدلب وريف حلب)، بعدما تحدثت مصادر عديدة عن انتشار وحدات عسكرية تركية أصلاً، في عدد من المواقع ضمن تلك المنطقة، في محاذاة منطقة عفرين.
ويطرح المشهد الجديد الذي تكشّف خلال يومين من المحادثات، أسئلة إضافية عن مآلات الاتفاق الذي أنتجته «أستانا» سابقاً، في ضوء تلك التوجهات الجديدة. إذ إن الإصرار التركي على عدم توقيع أي وثائق اتُّفق عليها (بما فيها تفاصيل منطقتي الغوطة الشرقية وريف حمص الشمالي) من دون اكتمال باقي الوثائق، يشير إلى نيات أنقرة بتحويل وجودها «الطارئ» في ريفي حلب وإدلب إلى قواعد دائمة داخل العمق السوري، في سياق متناغم ومتماثل مع ما قامت به خلال عملية «درع الفرات»، ولكن من دون معارك، وهو ما يلقى رفضاً معلناً من الجانب السوري. ويتقاطع التوجه التركي مع التصعيد الميداني والإعلامي الذي تشنّه أنقرة على «وحدات حماية الشعب» الكردية في عفرين.
وفي تصريح لافت من رئيس الوفد الحكومي إلى المحادثات، بشار الجعفري، أشار الأخير إلى أن «الطرف التركي عارض التوصل إلى اتفاق حول تفاصيل المناطق (كافةً)، ومارس سياسة الابتزاز في ذلك»، لافتاً إلى أن الجانب التركي ربط موافقته على الوثائق التي تحوي التفاصيل، بدخول قواته إلى إدلب.
من جهة أخرى، فإنّ ما جرى الحديث عنه بخصوص المنطقة الجنوبية، فهو يعكس ما جرى هناك خلال الأشهر الماضية من جهود أردنية حثيثة للتوصل إلى اتفاق وقف لإطلاق النار، بالتنسيق مع الجانب الروسي، أفضت إلى مفاوضات متقطعة شملت لقاءات بين ممثلين عن فصائل الجبهة الجنوبية وعدد من العسكريين الروس، المعنيين بتفاصيل الاتفاق. ويبرز تحييد الملف عن أستانا، وحضور واشنطن كطرف رئيسي في أي اتفاق خاص بتلك المنطقة، إلى أن الأميركي قد يكون غير معنيّ أو مؤهّل لفرض نفسه على كامل المشهد السوري كما يفعل الجانب الروسي، بل يصب اهتمامه على منطقة الحدود المحاذية لحلفائه، الأردن وإسرائيل، مع هدف استراتيجي يتمثل بإقصاء نفوذ إيران عن تلك المنطقة.
وتوفّر حيثيات المنطقة الجنوبية مجالاً واسعاً لواشنطن للتأثير بمجريات الأمور في الميدان، وهو ما بدا واضحاً من خلال خرق المسلحين المباشر للهدنة المعلنة من قبل الجيش السوري، ومقاطعتهم لحضور أستانا، في ما بدا أنه تمهيد لعزل الملف عن مسار تلك المحادثات. كذلك إن حضور تنظيم «داعش» ممثلاً بفصيل «جيش خالد» في حوض اليرموك، يشكل حجّة مناسبة لنشاط الأميركيين ضمن إطار «التحالف الدولي»، وهذا يتقاطع مع النشاط الذي شهدته الأشهر القليلة الماضية لطائرات أميركية من دون طيار فوق تلك المنطقة، إلى جانب غارات أردنية على مواقع في حوض اليرموك.
كذلك، يمكن قراءة تمسك الأميركي بوجوده في التنف وتعزيز قوته الصاروخية هناك ــ برغم إعاقته عن التقدم نحو دير الزور من قبل الجيش السوري ــ ضمن إطار خططه في تلك المنطقة، خاصة أنه لم يسعَ إلى سحب فصائل البادية من أطراف بادية السويداء وريف دمشق الملاصقة لحدود الأردن، برغم حاجته للمقاتلين خلال دفاعه عن محيط قاعدة التنف الغربي، أمام تقدم الجيش السوري.
وفي انتظار ما قد تقود إليه المحادثات الأميركية ــ الروسية بشأن اتفاق هدنة في الجنوب ومنطقة لـ«تخفيف التصعيد»، تبدو روسيا مستعدة لنشر قواتها لضمان أمن تلك المنطقة. إذ نقلت مصادر ميدانية أن قوات روسية (وحدات شرطة عسكرية) وصلت بالفعل إلى سوريا، بهدف تغطية تلك المهمة، حال إتمام الاتفاق. وفي سياق متصل، نقلت وكالة «الأناضول» عن مصادر في المعارضة السورية، تعبيرها عن «خيبة أملها» من «تفاهم أميركي ــ روسي» حول إنشاء المنطقة في الجنوب. وأوضحت تلك المصادر أن مساعد وزير الخارجية الأميركي ستيوارت جونز، قدّم أمس «معلومات صادمة» عن هذا التفاهم، مضيفة أن «اجتماعات استمرت عدة أيام في العاصمة الأردنية عمان، خرجت بهذا التفاهم... الذي يُسهم في انقسام المعارضة». ولفتت إلى أن واشنطن كانت «مستاءة من تقدم مسار أستانا، خاصة أن الجبهة الشمالية شهدت هدوءاً ملحوظاً، في ظل نشاط (عسكري) في الجبهة الجنوبية».
في غضون ذلك، اعتبر المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا، أن «اتفاق مناطق تخفيف التوتر هو إجراء انتقالي، يتطلب استمراره إحراز تقدم على الصعيد السياسي»، مضيفاً أنه «لا يجب رفع سقف التوقعات في محادثات جنيف المقبلة، كي نتمكن من التعليق على التقدم فور حدوثه».

المصدر: الأخبار