الحزب الذي أقام «دولة إسرائيل، الصهيونية ــ العمالية»، قرر أن يقوم بنفسه اليوم. قد تشير هذه «القيامة» إلى أن ديناصور «العمل» العجوز يشهد آخر نوبات صرعه. لكنها قد تشير أيضاً إلى انبعاثه من جديد، والكلام هنا لمحلل الشؤون السياسية في صحيفة «معاريف»، بن كسبيت


جاءت نتيجة الانتخابات الداخلية لرئاسة حزب «العمل» صادمة وغير متوقعة، سواء بالنسبة إلى المحللين السياسيين المخضرمين، من الذين واكبوا هبوط الحزب تدريجاً ودخوله في حالة «موت سريري»، أو بالنسبة إلى أعضاء الحزب أنفسهم.

فرص عمير بيرتس بالفوز كانت كبيرة، نظراً إلى كونه رجلاً تقليدياً وصاحب خبرة سياسية وابن المؤسسة الحزبية. لكن المفاجأة أنه في نهاية مسار انتخابي «تنحني له الرؤوس، وترفع له القبعات احتراماً» بوصف وسائل الإعلام الإسرائيلية، وجّه الأعضاء الذين بقوا في قلب الهيكل الانتخابي المتداعي، رسالة مفادها بأن «العالم القديم سيدمر... سيمحى و(أننا) نريد شخصاً مغايراً وغير معهود. نريد ببساطة تطهير الإسطبل، أو زلزلة السفينة. إن ما نريده بالضبط هو البدء من النقطة الصفر».
إزاء ذلك، قد «لا يمكن إلا الإحساس بالأسف تجاه عمير بيرتس»، يقول بن كسبيت، إذ كانت هذه الانتخابات بمثابة الفرصة الأخيرة لبلوغ القمة التي طالما حلم بها. وهو بعد كل ما مرّ به في أعقاب عدوان تموز على لبنان، راح يبني من جديد حياته السياسية «بإصرار نملة وصبر فيل»، ليصطدم أخيراً بـ«ظاهرة» لم يتوقعها أحد، كما لا يستطيع ــ حتى اللحظة ــ أحد ما تفكيكها... ظاهرة تدعى: آفي غباي!

«نادي الكبار»

في عام 2002، عرف «العمل» مشهداً مماثلاً، حين احتل عميرام متسناع صدارة «العمل»، ساحقاً منافسيه المعروفين بنيامين بن إيليعيزر (شغل منصب وزير الأمن)، وحاييم رامون (شغل منصب وزير الداخلية والصحة). وفي ذلك الوقت، مثلت انتخابات الحزب «فاجعة مبكية».
ويتمتع الرئيس الجديد للحزب، بطاقة هائلة، إلا أنه لا يزال من المبكر الحديث عن معالم المسار السياسي الذي سيسلكه. وبينما قد يمكن القول إنّ تقاطع ظروف وصدف استثنائية، أوصله إلى رئاسة «العمال»، إلا أنّ دخوله «نادي الكبار» يفتح على أسئلة جديدة، لعلّ أهمها بشأن خصومه الجدد. فهؤلاء لم يعودوا من بين أعضاء «العمل» (مثل عومير بارليف)، بل أصبحوا من رتبة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ورئيس حزب «هناك مستقبل» يائر لابيد، ووزير المالية موشيه كحلون (من كان يصدق أن يصبح هذا الأخير خصمه في يومٍ من الأيام بعدما كان زعيماً لحزبه القديم «كولانو»)، ووزير الأمن أفيغدور ليبرمان. وفي هذا «النادي» لكل خطأ ثمنه، ومن يُخطئ يحاسب. وبالتالي هل يمكن خبرتَه السياسية، المعدومة بصورة أو بأخرى، أن تجعله ينتصر على العقبات التي ستكون في انتظاره؟
«حوت البورصة»!

أيُ مسار سلك غباي لترؤس «العمل»؟ في أعقاب إقالة نتنياهو لوزير أمنه السابق موشيه يعالون، قدّم غباي استقالته من الحكومة، حيث كان يشغل حقيبة البيئة، واستقال أيضاً من حزبه «كولانو»، لأسباب أهمها أنه وجده لا يتوافق معه، فهو «حزب الرجل الواحد».
برغم ذلك، لم يوصد غباي، باب السياسة على نفسه، بل راح يلهث خلف اجتماعات ولقاءات ماراثونية، ولم يترك لاعباً على وجه الخريطة السياسية الإسرائيلية إلا واجتمع به (بدءاً برئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي سابقاً، غابي أشكنازي، مروراً بلابيد، ووصولاً إلى يعلون). وجد أنّ لابيد ولبيرمان «غير مطابقين» لتصوراته، ورأى أنّ «الليكود» لا يناسب مقاساته، فبقي أمامه: «حزب العمل».
ضمن «العمل»، راهن غباي على أشكنازي لزعامة الحزب، وذلك لكونه «كاسراً للتوازن»، ولأنّ بإمكانه «إحداث الفرق»، لأنّه «جنرال... غولانتشيك» (خدم في لواء غولاني)، و«أشكنازي» (يهودي أوروبي)، أي الشريحة التي استحوذت على رئاسة «العمل» لسنوات. ومن هنا، كان أشكنازي ببساطة بمثابة «إنسان يولد مرة واحدة كل بضعة أجيال».
لكن أشكنازي يمتلك هذه الصفات على الورق فحسب، ولذلك أدرك غباي أن هذه «التجارة» غير مجدية. أراد غباي أن يكون بطله «أشكنازياً» (في إشارة إلى أصوله الأوروبية)، لكن: لمَ لا تُعاد تجربة الشرقيين في رئاسة الحزب؟
هكذا، خطط غباي لمسار الرئاسة بنحو صارم، تماماً كما لو أنه واحد من حيتان البورصة. خطط بالاستناد إلى طريقة «الاستحواذ» على مجتمع في زمن أزمة مالية. فبدأ بمقابلة مع إيلينا ديان من «العمل»، وبعد ذلك بأيام أعلن انضمامه إلى الحزب وشقّ طريقه. المئات انضموا إلى الحزب في أعقاب انضمامه؛ هؤلاء تحولوا في غضون أشهر إلى ألوف. هم مثله، قرروا عدم انتظار أي شيء.
قد تشبه انطلاقة هذه المسيرة الأخيرة، المسارات الغريبة لرئيسي الولايات المتحدة وفرنسا الجديدين، دونالد ترامب، وإيمانويل ماكرون. ولذلك ربما، يعتبر بن كسبيت أنّ «حملة غباي الانتخابية يمكن تدريسها في المدارس». ويرتكز المحلل الإسرائيلي على أنّ غباي عرف الجذور العميقة لأعضاء الحزب، ودرس «نفسية» الأشخاص فيه، وخاصة الكوادر المهزومة التي خاب أملها من العالم السياسي القائم، حيث يفتقد حزبها الشخصيات الكاريزماتية. واستطاع غباي في غضون وقت قصير أن يصنع «زلزالاً»، مكنه من قيادة هؤلاء التائهين نحو الأمل.
وبرغم أنّ الرجل عديم الخبرة السياسية، وتجربته أكبر في مجال إدارة الأعمال، لكنه عرف في السابق كيف يتخذ قرارات «شجاعة». فقد دعم شيلي يحموفيتش لرئاسة «الهستدروت» (نقابة العمال الإسرائيلية)، من دون أن يعرف إن كانت ستنجح أو لا... كل ما كان يفكر فيه أن الأخيرة ستدعمه في انتخابات «العمل»، على قاعدة أن «تردَّ له الجميل». وفعلت.

نحو إطاحة نتنياهو؟

يبدو أننا أمام «معجزة» أثبت من خلالها «العمل» أن «الحياة بعد الموت ليست مستحيلة»، كما عبّر الكاتب في صحيفة «هآرتس»، يوسي فرتر، وأننا أمام «دراما خلطت أوراق المشهد السياسي». لكن ماذا تحمل «العنقاء» في جعبتها السياسية؟ ما صرّح به غباي هو أنه «سيطيح نتنياهو من الحكم ويعيد (العمل) إلى رئاسة الحكومة الإسرائيلية».
لم يكشف هذا الرجل بعد عن برنامجه السياسي، لكن صحيفة «يدعوت أحرونوت» نقلت عنه أنه «سيشكّل حكومة وحدة وطنية... وأنه مستعد، في إطار الحل النهائي مع الفلسطينيين، لنقل صلاحية إدارة الأحياء العربية في القدس الشرقية إلى السلطة الفلسطينية». ولفتت الصحيفة إلى أنه «مع حل دولتين لشعبين، على أن تبقى الكتل الاستيطانية الكبيرة تحت السيادة الإسرائيلية، وما بقي من أراضي الضفة وقطاع غزة سيشكل الدولة الفلسطينية، التي يُشترط أن تكون منزوعة السلاح». وفي تلميح له إلى إمكانية أن يدعو نتنياهو إلى انتخابات مبكرة (في أعقاب الفضائح وقضايا الفساد)، رأى غباي «أن استقالته من حكومة نتنياهو، لم تكن من أجل أن يعود إليها يوماً ما».
من الواضح أن غباي يتمتع بالشجاعة والرؤى العملية الواضحة، وذلك انطلاقاً من كونه رجل اقتصاد وأعمال، نجح في تجاربه في أكثر من شركة، وفي مقدمتها إدارته لشركة الهواتف الأرضية الإسرائيلية «بيزك». إلا أن إخراج «العمل» من المستنقع قد لا يتطلب شهادة عليا في إدارة الأعمال، بل أن يفكر رئيسه الجديد من خارج صندوق «اليمينية الوسطية» التي يبدو أن جذوره عائدة إليها، كما يعتبر البعض. قبله كثر جربوا إزاحة «الليكود» عن الصدارة... وأخفقوا.

المصدر: بيروت حمود - الأخبار