لم يكن الاتفاق الروسي الأميركي سوى انعكاس لموازين القوى في الجنوب السوري، التي ثبّتها الجيش بقوّة الميدان على مدى السنوات الماضية. عودة الجيش إلى الحدود الدولية وانتشار الشرطة العسكرية الروسية أبرز نقاط التفاهم، ليبقى وجود «جبهة النصرة» والدور الإسرائيلي المعرقل أبرز العقد


لم يكن الاتفاق الروسي ــ الأميركي، الذي تُوِّج بعد لقاء الرئيسين فلاديمير بوتين ودونالد ترامب في هامبورغ على هامش «قمّة العشرين» بوقف لإطلاق النار في جنوب غرب سوريا، سوى ترجمة لغلبة ميدانية واضحة ثَبَّتَتها قوات الجيش السوري وحلفائه بدعمٍ من قوات الجوـــ فضاء الروسية، بعد سنوات من القتال العنيف على جبهات درعا والقنيطرة.

ومع أن معالم الاتفاق وتفاصيله لم تتضّح كاملةً بعد، إلّا أن التفاهم يعكس خطوط توافق عامة بين القوتين الكبريين، ظهرت ملامحها على الأرض خلال الأشهر الماضية، وبدأت تتكشّف تباعاً مع سريان وقف إطلاق النار، لليوم السادس على التوالي.
ولم يعد خافياً أن المفاوضين الروس خلال اللقاءات الروسية ــ الأردنية ــ الأميركية في عمّان، ومع بعض قادة فصائل الجنوب المسلّحة، وفي اللقاءات المشتركة في حميميم مع الأردنيين (وربّما مع السوريين)، تمكّنوا من استثمار الغلبة العسكرية للجيش السوري وحلفائه عبر الوصول إلى وقفٍ لإطلاق النار يعطي دمشق اليد العليا في إدارة الجنوب، ويضع الفصائل المهزومة على طاولة المفاوضات، بعد أن تهرّبت طويلاً من مسار أستانا، بسبب أجنداتها المتضاربة وفشلها في الاتفاق على موقف موحّد.
وعدا عن رسالة وجّهها المبعوث الأميركي إلى سوريا مايكل راتني، قبل يومين، إلى «قوات سوريا الديموقراطية» على الأرجح، لم يخرج أي مسؤول أميركي أو روسي مبيّناً تفاصيل الاتفاق الأخير. وفيما ذكر راتني أن الاتفاق «يشمل الأراضي التي يسيطر عليها الثوار على حدود الأردن والجولان غرب السويداء، ولا يشمل المناطق الواقعة شمال السويداء أو القلمون»، وهو «تَعَهُّد باستخدام تأثيرنا (نحن والروس) على جميع الأطراف لوقف القتال... وتلك الخطوات تتضمن إمكانية نشر قوات مراقبة في المنطقة وتشكيل مركز مراقبة»، قالت مصادر دبلوماسية روسية لـ«الأخبار» إن «الاتفاق في خطوطه العريضة هو ثمرة مفاوضات شاقة وطويلة على مدى أشهر، اقتنع بعدها شركاء روسيا بضرورة وقف القتال في الجنوب (تستثنى منه التنظيمات الإرهابية) بما يضمن عودة القوات الشرعية السورية إلى الحدود الدولية وضبط الحدود، ونشر مراقبين للهدنة وبدء حوار جدّي بين الفصائل المسلّحة والقوات الحكومية السورية». وأوضحت المصادر أن «قوات الشرطة العسكرية الروسية تستعد للانتشار في الجنوب لمراقبة الهدنة ومنع أي خروقات، وهي تعمل على تدريب المئات من جنود الجيش السوري لتنفيذ مهمات المراقبة في درعا والسويداء والقنيطرة»، وأن «مستشارين من الروس والأميركيين سيتابعون لقاءاتهم لبلورة تفاصيل أخرى في التفاهم».
وردّاً على سؤال حول كيفية استعادة الجيش السوري معبر نصيب الحدودي مع الأردن الواقع تحت سيطرة الجماعات المسلّحة في ظلّ وقف إطلاق النار، قالت المصادر إن «الجانب الأردني بات مقتنعاً بأن عودة العمل والتبادل التجاري عبر المعبر لا بدّ أن تكون تحت إشراف القوات الحكومية السورية، وفي المرحلة المقبلة سوف يجري العمل على هذا الأمر». وحول ما إذا كان الاتفاق يراعي المطالب الإسرائيلية بانتشار قوات أميركية على حدود الجولان المحتلّ، ردّت المصادر: «من قال إن الأميركيين متحمّسون لهذا النوع من المسؤولية؟ لم يجرِ الحديث عن شيءٍ من هذا القبيل».

الأردن وإسرائيل وذريعة حزب الله

قبل نحو أربعة أشهر، رفع الأردن من سقف تصريحاته تزامناً مع لقاءات أستانا. وكان الموقف الأردني يومها مبنيّاً على تحريضٍ إسرائيلي واضح، واستند إلى معلومات قدّمتها إسرائيل حول تجمّعات لمقاتلين من المقاومة اللبنانية ومن الحرس الثوري في القنيطرة ودرعا. إلّا أن هذا السقف الأردني العالي، الذي اشترط ابتعاد حزب الله والحرس الثوري عن الحدود إلى مسافات «آمنة»، كان جزءاً من التصعيد الأردني لتحصيل المكاسب، فيما أتى تقدّم الجيش السوري وفشل هجومات المسلّحين في عمق درعا، ليؤكّدا أن الجيش يمكن أن يربح الجغرافيا في الميدان، ويخسر الأردن أوراقه التفاوضية. وفُهِمَ إرسال الجيش السوري قوات الفرقة الرابعة إلى مدينة درعا، بعد اتهامات أردنية بوجود كبير لقوات حزب الله في المدينة، بأنه إشارة على إيجابية الدولة السورية في إمكان الوصول إلى تفاهمات مع الأردن، تحت سقف السيادة السورية وما يراه الجيش ضرورات ميدانية لحماية قواته والنقاط الحاكمة داخل المدينة، بالتزامن مع قيامه بعمليات واسعة في مخيّم درعا وباتجاه بلدة النعيمة، وصولاً إلى القصف الجوي العنيف الذي استهدف قوات المعارضة في معبر نصيب، حتى مواقع داخل الحدود الأردنية. وحفلت تلك المرحلة بمناوشات بين البدو وحرس الحدود الأردني، وبعمليات تهريب كبيرة للمخدرات إلى الداخل الأردني من قبل مسلّحين محسوبين على غرفة عمليات «الموك»، بالتزامن مع ارتفاع مخاطر الأعمال والعمليات الإرهابية في الداخل الأردني، ما حدا بالأردن إلى الالتفات سريعاً نحو تخفيض سقف التفاوض وضرورة التعاون مع الجيش السوري لوقف التفلّت على الحدود الشمالية، بغية ضبط الحدود والسعي للبحث عن تفاهمات تعيد الحدود إلى سيطرة الوحدات النظامية السورية بدل العصابات المسلّحة المدعومة من الأردن و«الموك». ويمكن القول إن وقف إطلاق النار يؤمّن للأردن «مخرجاً لائقاً» إذا التزم بضبط الحدود بدوره مع الجانب السوري، وعودة شريان اقتصادي مهمّ في حال إعادة فتح معبر نصيب الحدودي، بعد أن بدأ الأردن فعلياً بالضغط على الفصائل المسلّحة في الجنوب عبر قطع التمويل عن بعضها وتخفيضه إلى الحدود الدنيا عن بعضها الآخر منذ ما قبل الإعلان عن الاتفاق، صابّاً اهتمامه على دعم فصائل البادية السورية.
في المقابل، ومع أن بعض التصريحات الإسرائيلية عبّرت عن أجواء تفاؤلية بسبب التوصّل إلى اتفاق وقف إطلاق النار، إلّا أن إسرائيل عمليّاً لم تستطع تحقيق ما سعت إليه على مدى السنوات الماضية، وما باتت تعبّر عنه بشكلٍ علني في الأشهر الماضية من تأمين حزام آمن على حدود الجولان. المنطقة التي يسيطر عليها مسلحّون مقرّبون أو مدعومون من إسرائيل على حدود الجولان المحتلّ، لا تتجاوز في عمقها عشرة كيلومترات من بيت جن على سفح جبل الشيخ وصولاً إلى بلدة الرفيد جنوب مدينة القنيطرة المحتلة. وهذه المنطقة تضمّ العدد الأقل من السكان وسط مدن القنيطرة، فيما لا تزال مدينتا خان أرنبة والبعث وبلدة حضر تؤازر الدولة السورية وتدعم قوات الجيش السوري. كذلك فشلت إسرائيل في استمالة الفصائل الكبيرة، لأن الجو الشعبي في الجنوب السوري، على الرغم من التحريض الطائفي والمذهبي الذي تغذّيه إسرائيل ودول خليجية مثل السعودية وقطر، والدعم اللوجستي والمالي الذي تقدمه لبعض الفصائل الصغيرة، لا يزال معادياً للاحتلال الإسرائيلي ويرى الجولان أرضاً سورية. وفي الأسابيع الماضية، بدت لافتة خطب الجمعة المعادية لإسرائيل لبعض مشايخ مدن منطقة «الجيدور» كجاسم ونوى في درعا، والتي كانت إسرائيل تطمح إلى ضمّها لما يسمّى «المنطقة الآمنة». كذلك انقلبت لعبة ابتزاز بلدة حضر من قبل الفصائل المدعومة من إسرائيل تعاضداً وتماسكاً في البلدة إلى جانب الجيش السوري، وحرصاً أكبر على مواجهة المسلّحين ورفض الإغراءات الإسرائيلية، ما منع وصل بيت جن وجبل الشيخ بجباثا الخشب والقطاع الأوسط من القنيطرة، فضلاً عن أن محاولات إسرائيل عبر «جبهة النصرة» لتوسيع «الحزام الأمني» عبر شنّ هجوم على مدينة البعث وتثبيت أمرٍ واقع قبل أسبوعين من الاتفاق، فشلت، وبدل ذلك تكبّدت «النصرة» خسائر فادحة، واستعاد الجيش زمام المبادرة.
غير أن وجود «جبهة النصرة» في درعا والقنيطرة، و«داعش» في حوض اليرموك، يبقى تحديّاً كبيراً أمام الفصائل المسلحة المحسوبة على الأردن. ولم يتضّح بعد إن كانت «النصرة» ستلتزم بجو التهدئة العام وتذعن للاتفاق الأميركي ــ الروسي، أم أن تمرّدها سيدفع بالأردن إلى تحريض الفصائل عليها وضربها، أو إن كان هناك مشروع أميركي لـ«ترويضها» ومزجها بفصائل الجنوب. وفي الأيام الماضية، حصلت معارك في بلدة كحيل بين «لواء صلاح الدين» من جهة و«مجاهدي حوران» و«النصرة» و«حركة أحرار الشام» من جهة أخرى، بسبب الخلاف على تسليم الأسلحة الثقيلة إلى قائد ما يسمّى «فرقة شباب السنّة» المدعو أحمد العودة المدعوم من المخابرات الأردنية، ونتج منها أكثر من 24 جريحاً، بعد معلومات عن قرار من «الموك» بتسليم الفصائل سلاحها الثقيل للعودة، ومن بينها «النصرة». كذلك يبقى التدخّل الأردني ــ الأميركي لدعم الفصائل المسلّحة في حربها ضد «داعش» في حوض اليرموك احتمالاً قائماً، إلّا أنه يمكن القول إن هذا التحالف في حال حسم المعركة، سيسجّل نصراً «وهمياً»، بعد أن تآكلت قوات «داعش» في الحوض، وباتت تلفظ أنفاسها الأخيرة، ووجودها الآن مرتبطٌ بمدى الدعم الذي ما زالت تحصل عليه عبر التهريب من بعض فصائل «الموك» و«النصرة».

المصدر: فراس الشوفي - الأخبار