كشفت ردود الفعل العربية غير المتناسبة مع الإجراءات الإسرائيلية في المسجد الأقصى عن حجم التهديد الذي يشكّله معسكر التطبيع العربي، وبخاصة السعودية، بحق قضية فلسطين وشعبها. في المقابل، كشفت «عملية الأقصى» الأخيرة عن إرادة الشعب الفلسطيني المتجذرة للمقاومة بما توفر، وعززت الانطباع إزاء الدور الرافض لهذه العمليات في الشارعين الفلسطيني والعربي.

ليست الإجراءات التي فرضتها قوات الاحتلال الإسرائيلي على المسجد الأقصى سوى محاولة توظيف واستغلال للعملية البطولية التي نفذها مقاومون من فلسطينيي الداخل، وذلك لتحقيق ما كانت تطمح وتتحيّن الفرص لتنفيذه، إذ يشكل الأقصى إحدى أهم ساحات الصراع والتجاذب بين الشعب الفلسطيني والاحتلال، إضافة إلى الجمعيات الصهيونية الموكل إليها مهمة استهداف المسجد والبحث عن «الهيكل».

أتت إجراءات منع الصلاة ووضع بوابات إلكترونية في سياق ردود مدروسة وهادفة تتبعها عادة المؤسسة الإسرائيلية بشقيها السياسي والأمني، على قاعدة تدفيع الشعب الفلسطيني أثمان أي انتفاضة، بهدف تطويع إرادته عن مواصلة المقاومة. ليست هذه السياسة وليدة ظروف مستجدة، بل امتداد لخيار انتهجته تل أبيب في مواجهة الشعب الفلسطيني. وفي حالة القدس والأقصى، تعمد إسرائيل تحت ستار الإجراءات الأمنية إلى تغيير الترتيبات بما يخدمها في استكمال إطباق سيطرتها، وفي حالات سابقة، كان الرد على عمليات المقاومة يأتي ببناء بؤر استيطانية. وفي ساحات أخرى بفرض حصار مطبق... وصولاً إلى ارتكاب المجازر.
مع ذلك، تبقى الكلمة الأولى في تحديد مفاعيل الرد الإسرائيلي على «عملية الأقصى» مرتبطة برد فعل الشعب الفلسطيني ومحيطه العربي على الإجراءات الإسرائيلية للمس بالمسجد، وخاصة أنها المرة الأولى التي تبادر فيها الأجهزة الأمنية منذ عام 1969 إلى منع إقامة صلاة الجمعة.

على هذه الخلفية، يمكن التقدير أن الاحتلال سيعاود تكرار هذه الخطوات في مراحل لاحقة، وفي مواجهة عمليات مشابهة لمجرد أن تكون بالقرب من المسجد، وذلك بهدف تحويلها إلى رد روتيني. والسبب أن عملية الإغلاق لم تواجه بردود شعبية متناسبة، لا في الداخل الفلسطيني ولا من السلطة ولا الأردن الذي من المفترض أن يتمتع بمكانة خاصة بشأن الأقصى وفق نص «اتفاقية السلام». ويمكن القول إن من أهم نتائج هذا الإجراء أن رئيس حكومة العدو، بنيامين نتنياهو، اكتشف حجم رد الفعل الفلسطيني والعربي في حال تصعيد إجراءاته القمعية.
في هذا السياق، توقفت صحيفة «يديعوت أحرونوت» عند ما رأته تجاوز السعودية عما جرى في الأقصى، فيما ذكرت أن المغرب نأى بنفسه عن القضية. أما مصر، فاكتفت بإبداء القلق. وفي ما يتعلق بـ«تمايز» الموقف الأردني عن بقية الدول، دعت الصحيفة إلى تجنب التأثر بذلك؛ «في ضوء حقيقة أن نصف سكان المملكة هم من الفلسطينيين، وخاصة أن البيان كان يريد توجيه رسالة طمأنة إلى أن القصر الملكي لن يتراجع ولن يهدأ حتى استئناف الصلاة في الأقصى»!
مع ذلك، ينبغي القول إن مجرد الحديث عن اتصالات لمواجهة إجراءات قمعية غير مسبوقة منذ عشرات السنين، لإعادة فتح المسجد، يعطي الاحتلال صورة عن أن خطوة كهذه ليست خطاً أحمر، وإنما قضية خلافية يمكن حلها بالاتصالات والمفاوضات، مع الإشارة إلى أن وزير الأمن الداخلي غلعاد آردن، قال خلال الأزمة إن «المسجد الأقصى هو تحت السيادة الإسرائيلية، وإن موقف الأردن... ليس مهماً. وإذا ما تقرر أن خطوة معينة لها أهمية معينة، فسيتم تنفيذها».
أما البيت الأبيض، فبادر إلى ما هو متوقع، إذ شجب مقاومة الشعب الفلسطيني للاحتلال الإسرائيلي، التي كانت «عملية الأقصى» أحد تجلياتها، كما دعم قرار إسرائيل إغلاق الحرم مؤقتاً. مع ذلك، لوحظ أن نتنياهو عمل على مسارين متوازيين: الأول اتخاذ إجراءات قمعية غير مسبوقة في المسجد منذ نحو نصف قرن، وعلى خط ثان التواصل مع رئيس السلطة، محمود عباس، للتنسيق معاً حول كيفية احتواء أي حراك شعبي فلسطيني يقلب الطاولة على الطرفين.
ويبدو أن نتنياهو حقق نجاحاً ملحوظاً في هذا المجال، وهو ما يفسر تجنبه ــ حتى حينذاك ــ اتهام الرئيس الفلسطيني، كعادته، بالتحريض، وقد يؤشر ذلك على أنه كان راضياً على أداء السلطة وموقف رئيسها الذي شجب العملية، ثم طلب من نتنياهو إعادة فتح المسجد!
وكانت إجراءات الاحتلال في الأقصى قد أتت في أعقاب عملية نفذها شبان فلسطينيون من أم الفحم الواقعة ضمن مناطق الاحتلال عام 1948، وأدت إلى مقتل شرطيين إسرائيليين. ولفتت صحيفة «هآرتس» إلى أنه «ليست مصادفة أن يكون الشرطيان القتيلان من الدروز»، لأن إسرائيل تضعهم عمداً في المناطق التي يكون فيها الاحتكاك مع الفلسطينيين مباشرة، مثل الإدارة المدنية، وأزقة البلدة القديمة في القدس، وشرطة الخليل. أما عن خلفية التكتيك الإسرائيلي، فرأت «هآرتس» أنه يأتي على قاعدة «فليصيبوا بعضهم بعضاً، وليكرهوا بعضهم بعضاً، وليراكموا المرارة إزاء بعضهم بعضاً، وليستهتروا ببعضهم بعضاً، ولتتحطم فلسطينيتهم المشتركة».
وحتى لا تغطي إجراءات الاحتلال على عملية القدس والرسائل التي انطوت عليها، انطلاقاً من كونها تجسيداً لإرادة الشعب الفلسطيني في مواصلة نهجه الكفاحي. يمكن التقدير أن العملية شكلت إنذاراً لقادة المؤسستين السياسية والأمنية كون منفذيها من الداخل الإسرائيلي الذي يفترض أنه تحت رقابة وإشراف «الشاباك». كذلك، توجه رسالة إلى صانع القرار بأن إجراءاته القمعية لن تحول دون أن يقول الشعب كلمته، برغم الحصار المفروض عليه بهدف الحؤول دون إمداده بأسباب القوة.
أيضاً، ليس من المستبعد أن تشكل العملية مادة للأجهزة الأمنية الإسرائيلية التي يمكن أن تشكل أساساً لتوصية ما تتصل بأداء القيادة السياسية الإسرائيلية إزاء فلسطينيي الداخل. وكما في كل المحطات، سيأخذ أنصار كل نهج ما يخدم توجهه. فمن جهة، سيستخدمها المطالبون بتعزيز الإجراءات القمعية ضد فلسطينيي الداخل كدليل على صحة نظرتهم التي تقول إن هؤلاء يشكلون مصدر تهديد كامن يمكن أن ينفجر في أي لحظة. في المقابل، قد ترى فيها بعض الأجهزة الأمنية، ذات الصلة، أنها تتطلب مزيداً من سياسة الاحتواء وتجنب حشر الشعب الفلسطيني منعاً لانفجار واسع.
في إطار أوسع، تشكل العملية رداً على كل المساعي التطبيعية بين الاحتلال الإسرائيلي، ومعسكر «أنظمة الاعتدال العربي» الذي تتزعمه المملكة السعودية. وهذا يمثل مصدر قلق للرياض، ومعها كل المهرولين، وخاصة أن من أهم شروط تحقيق أهداف الخطوات التطبيعية اللاحقة والمتوقعة تطويع إرادة الشعب الفلسطيني، وردعه ومنعه من مواصلة المقاومة التي ستشكل كل عملية بطولية ينفذها شبابه إدانة مدوية لهذا الخيار.
مع ذلك، تبقى حقيقة أخرى موازية مفادها أن «عملية الأقصى» تدفع بالقضية الفلسطينية عامة، ومعها القدس والأقصى، إلى صدارة المشهد السياسي الإقليمي، وهو ما قد يحرج بعض الشخصيات أو حركات إسلامية في المنطقة تحرص على إقصاء قضية تحرير فلسطين، ومتطلباتها عن صدارة أولوياتها.
في ضوء ما تقدم، لم تعد العمليات التي ينفذها الشعب الفلسطيني مجرد خطوات على التحرير فقط، بل لها أيضاً دور أساسي في المعركة الدائرة بين معسكرين: واحد يناضل من أجل إنتاج بيئة إقليمية توفر للشعب الفلسطيني، الذي يملك إرادة المقاومة للتحرير، عمقاً استراتيجياً فيه من أسباب القدرة اللازمة لتفعيل هذه الإرادة. في المقابل، يعمد المعسكر الثاني إلى كل الوسائل اللازمة لتغييب القضية الفلسطينية عن الصدارة واختراع معارك وأولويات أخرى على حساب الفلسطينيين ومعاناتهم.
على هذه الخلفية، كل عملية ينفذها مقاومو فلسطين تنطوي حكماً وبالضرورة على نوعين من الرسائل: الأول ينعكس قلقاً لدى صانع القرار الإسرائيلي وجمهوره. والثاني ينعكس استنهاضاً للرأي العام العربي الذي يخضع لمساع مكثفة من محاولات التطويع والتطبيع والتوجيه نحو كل ما ليس له علاقة بفلسطين وشعبها وقضيتها. وينبغي تأكيد حقيقة تقول إن مواصلة المقاومة ضد الاحتلال تتجاوز مفاعيلها الاستنهاضية في الشارعين الفلسطيني والعربي الكثير من الخطابات والمقالات والتحليلات. ومن أراد الدليل العملي على هذا المفهوم، فلينظر إلى مفاعيل استمرار المقاومة في لبنان.

المصدر: علي حيدر - الأخبار