المياه العادمة تعوم فوق مياه البحر وتُنتج أزمة بيئية وإنسانية، كانت بواكيرها قد أصابت قطاع غزة منذ سنوات، لكن تراكمها وتأجيل الحلول أدّيا إلى كارثة بيئية وصلت حتى الشواطئ الجنوبية لفلسطين المحتلة، فيما من المقدر أن تواصل سيرها نحو شواطئ مدن أخرى شمالا

غزة | لم تكن أزمة تلوث مياه البحر وليدة اليوم في غزة؛ فالحرب الأخيرة على القطاع عام 2014 استهدفت محطات معالجة مياه الصرف الصحي وشبكاتها، ما ضاعف مشكلة العجز في هذه المحطات وعملها. وخلال ثلاث سنوات تلت سارت فيها عملية الإعمار ببطء، أتت التجاذبات السياسية، التي كانت إحدى نتائجها أزمة الكهرباء، لتصيب جميع تلك المحطات بالشلل، ما أدى إلى ضخ المياه العادمة بلا معالجة إلى البحر، فيما يحذر خبراء بيئيون من «زحف المجاري إلى الطرقات والشوارع» في وقت لاحق.

وبينما تتقاذف حركة «حماس» والسلطة الفلسطينية الاتهامات بشأن أزمة الكهرباء، مع غياب إجابة واضحة عن مصير الوقود المصري الذي يدخل غزة ومساهمته في تشغيل محطة التوليد، فإن التيار الذي لا يصل البيوت إلا من ساعتين حتى أربع ساعات مقابل 20 ساعة قطع، ليس له خطوط خاصة تغذي محطات التكرير، ما يعني أن العمل متوقف في الأخيرة.
يقول الاستشاري في قضايا المياه والبيئة أحمد حلس إن ما يصل القطاع من كهرباء لا يتجاوز 25% من احتياجاته، في حين أن 60 ميغاوات هي الطاقة اللازمة للمنشآت المائية وحدها، مشيراً إلى أن لكل مرحلة لعلاج المياه العادمة في تلك المحطات حاجة إلى كهرباء من أجل نزع نوع من أنواع الملوثات. ويلفت حلس إلى مشكلة أخرى تتمثل في أن تلك المحطات لم يتم تطويرها طوال السنوات العشر الماضية بسبب الحصار والحروب، مع الأخذ بالاعتبار عامل ارتفاع الكثافة السكانية وما يتبعه من زيادة في المياه العادمة.
تقاذف الاتهامات ليس محصوراً بين الجهات السياسية، بل إن مسؤولاً في «سلطة الطاقة»، التي تتحكم فيها «حماس» في غزة، قال إن على محطات التصفية أن تتدبر أمر الكهرباء بشراء وقود لتشغيل المولدات الداخلية لديها، معلقاً أزمة الكهرباء بعمومها على السلطة، وذلك بالقول: «الأزمة ستبقى قائمة ما لم تتراجع حكومة رام الله عن خطواتها الأخيرة بحق القطاع». في المقابل، قال أحد المسؤولين في إحدى محطات التكرير إنهم لا يتمكنون من شراء وقود بصورة خاصة في ظل غيابه تجارياً، فيما يحتاجون يومياً إلى نحو عشرة آلاف دولار لشراء أربعة آلاف ليتر من أجل محطة واحدة، مضيفاً: «المنطق أن تكون هناك كهرباء... لا بدائل كهرباء».
بالنسبة إلى الغزيين، لا يعني كل هذا سوى حرمانهم فرصة الاصطياف التي تمثل لهم المتنفس الوحيد في بقعة جغرافية محصورة وصغيرة لا يستطيعون السفر منها. وإن كان مقبولاً لديهم في السنوات الماضية المجازفة قليلاً والسباحة في بحر ملوث، فإن نسبة التلوث الواضح كمّاً ونوعاً للعيان هذا العام تمنعهم حتى من التفكير في الذهاب إلى البحر. وأفادت مصادر في «سلطة جودة البيئة»، في حديث إلى «الأخبار»، بأن نتائج تحليل أجرته الأسبوع الماضي في مختبرات وزارة الصحة خلصت إلى «ارتفاع نسبة طول الشاطئ الملوث بدرجة كبيرة بعدما وصلت إلى 73% من طول الشاطئ الكلي البالغ 42 كلم».
وذكرت تلك المصادر أن «أعلى نسبة للتلوث كانت في المناطق المتاخمة للمدن كمدينة غزة، لكن تتغير تلك النسب مع المتغيرات الجوية، ولذلك ندعو المواطن إلى تجنب غالبية الشواطئ»، وذلك في وقت قال فيه حلس إن «التيارات في الحوض الشرقي للبحر المتوسط تكون عكس عقارب الساعة، ما يدفع بالمياه الملوثة إلى الاتجاه نحو شواطئ حيفا وعكا وصولاً إلى لبنان (في حال استمر ضخ مياه الصرف الصحي بهذه الوتيرة)، كذلك فإن عملية المدّ والجزر تجعلها عالية التركيز».
وتزداد الأزمة على نحو مليوني مواطن (يعيشون في أعلى كثافة سكانية على 365 كيلومتراً مربعاً) مع موجة الحر القائمة ورغبتهم في التوجه إلى البحر. لكن جولة على بعض الشواطئ تظهر بوضوح تراجع المصطافين، رغم وجود عدد منهم لا يرغب في السباحة. كذلك فإن أطباء واختصاصيين أفادوا بأنه في هذا الموسم ازداد وصول حالات مرضية معوية وجلدية، خاصة عند الأطفال، فيما كانت قناديل البحر، التي تقتات أنواع منها على الفضلات، سبباً آخر لتعكير السباحة.
وعملياً، يُضخ نحو 115 ألف كوب يومياً من المجاري الخام نحو بحر غزة من جميع محافظاتها، عدا المنطقة الشمالية التي تتجمع فيها المياه العادمة في أحواض تترسب لتلوث بدورها مخزون المياه الجوفية، وهذا وجه آخر للمخاطر التي تهدد مستقبل الحياة في غزة، إلى جانب ما يصيب الثروة السمكية ومجمل البيئة البحرية من أضرار مشابهة.
وقبل نحو أسبوع تقريباً، حذرت الأمم المتحدة من أن قطاع غزة قد يكون بالفعل أصبح «غير صالح للحياة»، وذلك في تكرار لتقرير مشابه صدر عنها عام 2012 قدّر أنه في 2020 سيكون القطاع قد وصل إلى هذا الوصف، لكن الأزمات المتتالية قلّصت كما يبدو المدة الزمنية. وقال منسّق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في فلسطين، روبرت بايبر، إن «المؤشرات كافة تسير في الاتجاه الخطأ... أكثر من 95% من المياه في القطاع غير صالحة للشرب، فيما انخفضت إمدادات الكهرباء بصورة خطيرة في الأشهر الأخيرة».

المصدر: مروة صابر - الأخبار