على الرغم من أن النتائج الآنية لأحداث إدلب الأخيرة صبّت في مصلحة «هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة) من حيث ازدياد رقعة سيطرتها الجغرافية واستقطابها مزيداً من المقاتلين، غير أنّ هذه المكاسب في واقع الأمر تبدو أشبه بـ«ديكور» يُجمّل «عزل النصرة» ويمهّد لتحويل بوصلة «محاربة الإرهاب» نحو إدلب متى دقّت «ساعة التوافقات»
خسرت «حركة أحرار الشام الإسلاميّة»، لكنّ «هيئة تحرير الشام» لم تربح. بهذه الخلاصة يمكن تلخيص مُفرزات «فتنة إدلب» الأخيرة التي اندلعت بين الطرفين. ورغم أنّ النتائج المبدئيّة تعكس «انتصاراً» لـ«تحرير الشام / النصرة» تجلّى في صورة «تمدّد» جديد لمناطق نفوذها، واستقطاب لمزيد من «الكتائب» و«الألوية» التي انشقّت عن «أحرار الشام»، غيرَ أنّ المعطيات توحي بأنّ هذه المكاسب صالحة للتحول في المستقبل إلى أسباب وجيهة لتصويب بوصلة «محاربة الإرهاب» نحو «النصرة» متى نضجت الظروف السياسيّة.
وليست تجربة «داعش» في هذا الإطار بعيدة عن الأذهان، حيث تنامت تدريجيّاً قدرة التنظيم الإرهابي تحت سمع العالم وبصره، وأفلح في تحقيق انتصارات كبيرة على جبهات عدة، بما في ذلك حربه ضدّ «الإخوة الأعداء» في باقي التنظيمات (وعلى رأسها «النصرة» ذاتها)، قبل أن تحين ساعته ويصبح انحسار نفوذه مطلباً أوحد لمحاور وأجندات عدّة في ما يمكن وصفه بـ«تسمين الثور قبل ذبحه». على المسار ذاته، تبدو «النصرة» ماضية بثبات مع فارق جوهري خلاصته أنّ الأخيرة لن تحظى ــ على الأرجح ــ بزمن طويل تنتشي فيه بـ«انتصاراتها» قبل أن تدق «الساعة الصفر» لحرب تقويضها.
وإذا كانت تسمية «عزل النصرة» توحي في ظاهرها بأنّ الطريق إلى «العزل» يجب أن يمرّ بهزائم تلحق بها وبانكماش لمناطق سيطرتها، فإنّ ثمّة مساراً آخر يمكن أن يسلكه سيناريو «العزل» ويكون أكثر فاعليّة على نحو يشابه ما شهدته إدلب في الأيام الماضية: معارك تخوضها «النصرة» ضد مجموعات أخرى وتنتهي برجحان كفّتها وتزايد مناطق سيطرتها الجغرافيّة وانفرادها بتلك المناطق، وتسرّع في الوقت ذاته دق نواقيس الخطر ضد تنامي سيطرة القوّة المتطرفة في إدلب.
وفي الطريق إلى هذه النتيجة تواصل «النصرة» استقطاب مزيد من العناصر والتشكيلات القابلة للانجذاب إلى معسكر «التطرف القاعدي». في المقابل، وبتناسب عكسي، يؤدي هذا المسار إلى انكماش مجموعات سوريّة مسلّحة كثيرة العديد والعتاد إلى حدّ قد يُصعّب إدماجها في سيناريوات أي «حل» مستقبلي يتوافق عليه اللاعبون الإقليميون والدوليون (وهو ما حصل مع «حركة أحرار الشام» أخيراً).
وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى بند مهم نصّ عليه اتفاق «أحرار الشام» و«النصرة»، وهو بند يمنح الحق لأي كتيبة أو لواء انشق عن «أحرار الشام» وانضم إلى «تحرير الشام» أن يرجع عن قراره «إن رأى أنه كان مكرهاً»، ما يعني أن المجموعة التي تصرّ على تموضعها الجديد قد اختارت «الهوى القاعدي» بكامل إرادتها. ووفقاً لما تقدّم، يبدو مرجّحاً أن انفراد «النصرة» بالسيطرة على مدينة إدلب هو مشهد قابل للتكرار في مدن وبلدات أخرى ضمن المحافظة الشماليّة، ليعبّد الطريق مستقبلاً أمام «لعنة» موجّهة ضد «النصرة»، لكنها في الوقت نفسه مرشحة لتطاول مدنيي إدلب، في تكرار مفجع لسيناريو نكبة الرقّة.
وعلى امتداد السنوات الماضية، طرأت تحوّلات كبيرة على دور إدلب في الحرب السوريّة؛ ففي خلال السنوات الأربع الأولى، لعبت إدلب دوراً أساسيّاً في «تصدير» المسلّحين إلى كثير من مناطق الاشتباك السوريّة، لا سيّما المتاخمة لها. كان لهؤلاء دور أساسي في تشكيل مئات الكتائب والألوية المعارضة، سواء خارج محافظتهم أو داخلها، ويطلق كثير من المعارضين على إدلب لقب «خزّان الثورة الكبير». كذلك، لعبت إدلب دور «المعبر الحيوي» لآلاف الجهاديين الوافدين من الحدود التركيّة، حيث أنشأت بعض التنظيمات معسكرات استقبال وتدريب في الريف يقصدها هؤلاء، قبل أن يتوزّعوا على جبهات مختلفة على امتداد الجغرافيا السوريّة.
سيطرت المجموعات المسلّحة على معظم ريف إدلب منذ أوائل عام 2013. وبدءاً من عام 2014 بدأت بعض مناطق الريف في لعب دور معاكس عبر جذب المجموعات المسلّحة من خارج المحافظة إلى داخلها. وبفعل الحضور الكبير الذي تحظى به «النصرة» فيها، وقع الاختيار عليها مقصداً لآلاف المسلّحين التابعين للنصرة ممّن انسحبوا حينها مدحورين من معارك طويلة وعنيفة ضدّ تنظيم «الدولة الإسلاميّة» في أرياف دير الزور والرقّة والحسكة وحلب. في آذار 2015 سيطرت المجموعات على مدينة إدلب (مركز المحافظة) تحت راية «جيش الفتح»، وبعدها بشهرين بسطت المجموعات سيطرتها على كامل محافظة إدلب (باستثناء بلدتي كفريا والفوعة). لعب هذا التحول دوراً محوريّاً في زيادة عوامل الجذب، لتتحوّل المحافظة إلى نقطة استقطاب أولى لكل المجموعات المسلّحة المنسحبة من مناطق وجبهات أخرى تحت وقع المعارك أو بفعل التسويات التي أبرمتها الدولة السورية في أرياف درعا ودمشق وحمص، كما في حي الوعر الحمصي والجزء الشرقي من مدينة حلب.
المفارقة أنّ كل هذا الاستقطاب لم يؤدّ إلى نتيجة «إيجابية» تصبّ في خانة المعارضة، بل أفرز على العكس من ذلك واقعاً ميدانيّاً لمصلحة الجيش السوري وحلفائه. ومع الأخذ في عين الاعتبار أن أولويات الداعم التركي قد تبدّلت كثيراً في خلال العام الأخير، وأنّ مجموعات مسلحة كثيرة قد تمّ تجنيدها لخدمة المشروع التركي الذي تبلور في صورة مناطق احتلال تحت مسمى «درع الفرات»، يمكن القول إن مشروع «الغربلة والعزل» قد بدأ فعليّاً منذ انطلاق شرارة «الدرع» بصورة خفيّة. ثمة تفصيل إضافي جدير بالاهتمام في التغيرات التي لحقت بخريطة السيطرة في إدلب في خلال الأيام الأخيرة، ومفاده ازدياد مساحات سيطرة «النصرة» على تخوم مدينة عفرين (ريف حلب الشمالي). ومن شأن هذا التفصيل أن يؤهل «جبهة النصرة» لتنفيذ مهمة «أخيرة» تحظى بأولوية تركية كبرى، وهي مهاجمة القوات الكردية المتمركزة في عفرين واستنزافها قدر الممكن، بدلاً من زجّ الجيش التركي في مواجهة مفتوحة (وغير محمودة العواقب) مع الأكراد