عملت الإمارات منذ دخولها الحرب على اليمن على بسط نفوذها في المناطق الاستراتيجية في الساحل، لتمتد أطماعها من جزيرة سقطرى في خليج عدن، وميون في قلب باب المندب، إلى ميناء المخا وغيره من الموانئ الواقعة على الساحل البالغ طوله 2500 كلم، وهو من أهم السواحل في المنطقة العربية والشرق الأوسط


لم يعد خفياً الهدف الذي دفع بالإمارات إلى دخول اليمن وتقديم «التضحيات» البشرية والمادية في حرب لا أفق واضحاً لها، ولا سيما أن السبب المعلن للمشاركة، وهو «إعادة الشرعية»، يبدو بعيد المنال حتى في مناطق نفوذ تحالف العدوان والقوى المحلية الموالية له. الهدف الواضح هو ضمان بقاء ثابت ومستدام للنفوذ الإماراتي على مضيق باب المندب، ويبدأ تحقيقه بتعزيز الحضور في «الجزر العذراء» المنسية والمهملة محلياً، رغم أهميتها الاستراتيجية.

والجزر اليمنية، البالغ عددها 216، تنتشر على امتداد البحر الأحمر وخليج عدن والبحر العربي والمحيط الهندي، ومن ضمنها ميون وسقطرى، وتصنّف على أنها من «الجزر الذهبية» في الشرق الأوسط، لكنها تحولت بسبب جغرافيتها وطبيعتها الفريدة، وكذلك الممرات الملاحية والبحار المحيطة بها، إلى مناطق صراع ونفوذ بين الدول.
في كانون الثاني الماضي، نشر موقع «تاكتيكال ريبورت» المختص في الشؤون الدفاعيّة وشؤون الشرق الأوسط، تقريراً قال فيه إن وليّ عهد أبو ظبي محمد بن زايد آل نهيان كشف أمام قادة عسكريين إماراتيين رغبته في تعزيز دور البحرية في «حماية وتأمين ساحل اليمن»، وذلك في خطوة تأتي ضمن خطة «الرجل القوي» الاستراتيجية لتوسيع الانتشار العسكري في مضيق هرمز وباب المندب حتى سواحل القرن الأفريقي. ووفق الموقع الاستخباري، فإن ابن زايد «على اتصال دائم بوزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) لدراسة توسيع دور البحرية»، الذي بدأ بالفعل بإنشاء قواعد عسكرية في كل من اليمن وإريتريا وجبيوتي والصومال، إضافة إلى استئجار عدد من الموانئ، لاستخدامها للتصدير والاستيراد، أو حتى تعطيلها!

سقطرى... القصة الكبرى

في شباط من العام الماضي، تناقلت وسائل إعلامية تقارير تتّهم الرئيس اليمني المستقيل، عبد ربه منصور هادي، بتأجير جزيرة سقطرى للإمارات لمدّة «99 عاماً». ووسط سخط شعبي كبير، نفى هادي الاتفاق المثير للجدل، لتوجّه أصابع الاتهام في ذلك الحين إلى نائب الرئيس (السابق) خالد بحاح، الذي وفق ما نقلته مصادر لموقع «العربي» المتابع لشؤون الجزيرة العربية، «وقّع مع الإمارات العقود بعلم من هادي الذي وافق في بداية الأمر...
ولكنه لم يكن يعلم ما يدور فعلياً في أذهان الإماراتيين».
وتزامنت تلك الاتهامات مع كشف مصادر مطّلعة أن ابن زايد تعامل مع هادي بـ«أسلوب غير لائق بروتوكولياً وبقدر من الاستعلاء والفوقية»، وعلى أساس «أننا من أعدناك إلى عدن»، خلال لقاء عاصف جمع الاثنين، فيما عدّد وليّ العهد ما قدمته الإمارات لدعم «الشرعية»، وشدّد على أن «تضحياتنا ودماء 65 شهيداً إماراتياً لن تذهب سدى».
لكن غضب «الشرعية»، وخلفها الرياض، من أبو ظبي لم يمنع الأخيرة من مواصلة ممارساتها المنهجية لاستكمال السيطرة على الجزيرة، التي ظلت محل أطماع إقليمية ودولية نتيجة موقعها على المحيط الهندي قبالة سواحل القرن الأفريقي وبالقرب من خليج عدن. وتتميز سقطرى، وهي أرخبيل مكوّن من أربع جزر، بتنوع طبيعي فريد، إذ يوجد فيها المئات من أنواع الأشجار والنباتات والحيوانات التي لا وجود لها في أي منطقة أخرى في العالم. وهذا ما دفع منظمة «الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقاقة» (يونيسكو) في 2008 إلى تصنيف الجزيرة، التي تبلغ مساحتها نحو 3796 كلم مربعاً ويقدّر عدد سكانها بنحو مئة ألف نسمة، كـ«أغرب جزر العالم»، كذلك تمتلك سقطرى شريطاً ساحلياً يبلغ طوله 300 كلم.
تحت ذرائع «الاستثمار» و«المساعدات الانسانية» عقب عواصف عام 2015، بدأت عملية الاحتلال الإماراتي للجزيرة وتغيير معالمها الفريدة وديمغرافيتها وحتى هويتها اليمنية، عبر تجنيس السكّان وتدريب أكثر من 300 من أبنائها عسكرياً، ليصبحوا جيش أبو ظبي.
ووفق التقارير الصحافية التي انتشرت بكثافة في العامين الماضيين، أنشأت الإمارات ميناءً سرّياً في سقطرى، وسيّرت ثلاث رحلات أسبوعية مباشرة بين أبو ظبي والجزيرة، وأوصلت شبكة اتصالات إماراتية وربطتها بالجزيرة، كذلك اشترت مساحات واسعة من الأرض أو باعتها لسكّان من حاملي جنسيتها، وفرضت التعامل بالدرهم الإماراتي هناك، كما أرسلت 80 آلية عسكرية إليها.
كذلك، أقامت منشآت سياحية تضرّ بطبيعة الجزيرة، ووصل الأمر إلى حد استهداف ونهب الثروة النباتية والحيوانية، ونقل النباتات والطيور النادرة إلى حدائق أبو ظبي، وممارسة الصيد وجرف الشعب المرجانية بما يهدّد الثروة السمكية. والأخطر أن الوجود العسكري الإماراتي في الجزيرة، التي احتلتها بريطانيا عام 1886 واستمرت هناك حتى استقلال جنوب اليمن عام 1967، يمثّل موطئ قدم للولايات المتحدة التي سعت إلى السيطرة عليها ضمن خطة بسط نفوذها على المحيط الهندي، وذلك بعد سيطرتها على دييغو غارسيا (جزيرة في وسط المحيط الهندي على بعد 1600 كلم إلى الجنوب من الساحل الهندي) مطلع السبعينيات.
ميون «عنق باب المندب»

بعد سقطرى، جاء دور جزيرة ميون الواقعة في قلب باب المندب، وهي فضلاً عن الوجود العسكري الأجنبي فيها، يتعرض سكّانها لممارسات وضغوطات من أجل إخلائها ونقلهم إلى أماكن أخرى، وذلك لبناء قاعدة عسكرية. وأكّدت مجلة «نيوزويك» الأميركية تحويل الإمارات لميون، التي تبلغ مساحتها 13 كلم مربعاً وتقع بين اليمن وجيبوتي، إلى قاعدة عسكرية من دون علم الحكومة اليمنية «الشرعية» الحليفة لها، مشيرة إلى أن المنشآت العسكرية التي تبنيها الإمارات «ستمنح أبو ظبي السيطرة الكاملة على أحد أهم الطرق البحرية الاستراتيجية في العالم: مضيق باب المندب».
وميون ذات موقع استراتيجي مميّز حتى عن باقي جزر باب المندب، لأنها تقسّم المضيق إلى قناتين لمرور السفن، ولهذا تسمى بـ«عنق باب المندب». كذلك، ازداد الحديث في الأسابيع الماضية عن التوسع الإماراتي في ميون «في ظل غياب تام للسعودية»، وكشفت صور الأقمار الصناعية والخرائط التي نشرتها مجلة «جاينز» البريطانية المتخصّصة في الأبحاث العسكرية، عن إنشاء أبو ظبي مدرج طائرات جديداً، متوقعةً أن «تنتهي من إكمال بنائه وإنشاءات أخرى مع نهاية العام الجاري».
وهذه ليست المرة الأولى التي تسعى فيها دولة أجنبية إلى تعزيز وجودها العسكري في هذه الجزيرة البركانية، إذ إن الولايات المتحدة وفرنسا سبق أن طلبتا من اليمنيين، خلال العقود الماضية، السماح لهما بإنشاء قواعد عسكرية هناك، ولكن السلطات كانت ترفض، تخوّفاً من التداعيات الشعبية الرافضة لأيّ وجود خارجي.

ميناء المخا

فضلاً عن الجزر، يملك البلد العربي الأشدّ فقراً أكثر من عشرة موانئ محورية تجعله، إضافة إلى الثروات الطبيعة ومصادر الطاقة الموجودة فيه، من أكثر البلاد حركة تجارية في المنطقة. وحالياً، تمثل المعارك الدائرة منذ حوالى شهرين في منطقة الساحل الغربي، وخصوصاً في مدينة المخا جنوب غرب محافظة تعز (التي تمتلك ميناءً حيوياً قريباً من باب المندب) من أبرز التطورات في المشهد اليمني. ولا تعكس هذه الأحداث الإرباك الميداني للقوى الحليفة للعدوان فحسب، بل تكشف التخبّط في بنية هذا «التحالف» الذي تتسابق وتتضارب فيه المطامع العربية والدولية، الاقتصادية والتجارية.
وكانت مصادر محلية قد كشفت عن تحويل أبو ظبي ميناء المخا، الذي يعدّ الأقدم في البلاد، إلى ثكنة عسكرية لقواتها التي بلغ عددها هناك أكثر من 400 جندي. ووفق ما نقلته المواقع اليمنية، يُمنع الاقتراب من الميناء منذ إعلان تحالف العدوان السيطرة عليه في شباط الماضي، كذلك أُخلي من قوارب الصيادين ومُنع صيد الأسماك عبره، علماً بأنه مصدر رزق معظم السكان على طول الشريط الساحلي من باب المندب حتى الميناء المعروف بـ«ساحل العروك».
وما يحدث اليوم في ميناء المخا شبيه لما حدث في مطار الريان في مدينة المكلا، عاصمة محافظة حضرموت الواقعة شرق البلاد، الذي حوّلته القوات الإماراتية إلى قاعدة عسكرية تقيم فيه سجناً سرياً لمئات المعتقلين المعارضين للوجود الأجنبي في البلاد. وأثار تحقيق استقصائي لوكالة «أسوشييتد برس»، عن إقامة هذه السجون السرية في مناطق مختلفة من جنوب اليمن، موجة غضب كبيرة في الأوساط اليمنية المعارضة وكذلك المؤيدة لـ«التحالف»، إذ رأت فيها انتهاكاً لا يقل خطورة عن الاحتلال الجغرافي والسياسي الذي تمضي أبو ظبي فيه.

المصدر: رنا حربي - الأخبار