ببراغماتية وحذر، تتحرك العلاقات الروسية ــ الفرنسية، ضمن مسار أطلقه اللقاء الأول بين فلاديمير وبوتين وايمانويل ماكرون، تتمدد تعرجاته الوعرة من محاور التوتر الأساسية في سوريا وأوكرانيا، لتتصل بعمق التاريخ من زيارة بطرس الأكبر لباريس إلى الهزيمة المذلة لنابوليون بونابرت

«إجراء غير قانوني»؛ بهذه العبارة علّقت وزارة الخارجية الفرنسية، أمس، على مسودة القانون الذي أقرّه مجلس النواب الأميركي، بشأن فرض عقوبات جديدة على روسيا. هذا الموقف من عقوبات الحليف الأميركي، بدا ملفتاً للانتباه، خصوصاً أن فرنسا نفسها، كانت من بين المحرّضين الرئيسيين على النهج العدائي، الذي اتخذه الاتحاد الأوروبي ضد روسيا، منذ بدء الأزمة في أوكرانيا، وما رافقها من تحرّك روسي مزدوج، الأول جنوباً في شبه جزيرة القرم، والثاني شرقاً في منطقة الدونباس.

في الجانب المباشر، تبدو منطلقات الانتقاد الفرنسي للعقوبات الأميركية، محض اقتصادية، وهو ما تضمنه بيان الخارجية الفرنسية، التي اعتبرت أن «الوصول الاستثنائي للعقوبات الأميركية المحتملة لشركات وأفراد أوروبيين يجرون أعمالاً في بعض المجالات مع روسيا، برغم عدم ارتباطهم بالولايات المتحدة أو شركات تقع فيها، يبدو غير قانوني، وفق القانون الدولي»، مشيرة إلى أن الخطوة الأميركية قد تجبر فرنسا على تبني تشريع وطني، وتحديث التشريعات الأوروبية، لمنع «التأثيرات العابرة للحدود» للإجراءات الأميركية.
ولكن ثمة جانباً آخر، سياسياً، للموقف الفرنسي، ويرتبط بمستويين في العلاقات الخارجية لفرنسا.
المستوى الأول، يتصل بالعلاقات الفرنسية ــ الأميركية، وفي نطاق أوسع، بالعلاقات بين ضفتي الأطلسي، التي صارت موضع تساؤلات، منذ وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وما تثيره سياساته من شكوك بشأن التحالف التاريخي بين أوروبا والولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية، بكافة جوانبه، التي تشمل مروحة واسعة من الملفات الحساسة، أبرزها مستقبل «حلف شمال الأطلسي»، واتفاقية المناخ، والتموضعات الجديدة بعد استفتاء «بريكست» البريطاني.
وأما المستوى الثاني، فيرتبط بالعلاقات الفرنسية ــ الروسية نفسها، والتي باتت تسلك، مع وصول ايمانويل ماكرون إلى الإليزيه، مساراً معاكساً للتوقعات السلبية، التي أثارتها اللهجة العدائية التي انتهجها المرشح الشاب تجاه روسيا، خلال حملته الانتخابية، والتوتر الذي رافق الانتخابات الرئاسية الفرنسية الأخيرة، بعد سيل الاتهامات التي وُجّهت إلى الكرملين بمحاولة التأثير على العملية الانتخابية.
وبالرغم من أن روسيا، ربما كانت تفضل أن يصل إلى الإليزيه، شخص مثل فرنسوا فيون، أو حتى مارين لوبن ــ التي حظيت باستقبال حار في موسكو خلال الحملة الرئاسية ــ إلا أن انتخاب ايمانويل ماكرون، لم يربكها تماماً، ومن المؤكد أن مخططي السياسات في الكرملين، قد وضعوا في الحسبان مبكراً، النتائج المترتبة على فوز الأخير، للتعامل مع التأثيرات المحتملة على العلاقات الثنائية، وأبعادها الأكثر اتساعاً.
ويبدو أن الكرملين قد تعامل مع التصريحات السلبية التي أطلقها الرئيس الفرنسي قبل وصوله إلى قصر الإليزيه، انطلاقاً من طابعها الانتخابي، في منافسة، بدت شرسة مع مرشحة اليمين المتطرف، وكان ملف العلاقات الروسية ــ الفرنسية خلالها، مادة دسمة، لتسجيل المواقف، وكسب النقاط الانتخابية، وهو ما تبدّى بشكل خاص، في الجولة الانتخابية الثانية، التي تعامل معها الجميع، كما لو أنها معركة بين أوروبا وروسيا.
ومما لا شك فيه أن المقاربة الروسية لطبيعة العلاقات مع فرنسا، في عهد ماكرون، استندت إلى عوامل سياسية، محورها الفتور القائم بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بعد فوز دونالد ترامب، في انتخابات الرئاسة الأميركية، وإدراك الأوروبيين، ولا سيما الفرنسيين والألمان، أن التسويات الإقليمية والدولية لا يمكن أن تتم بمعزل عن روسيا؛ وعوامل اقتصادية، تجعل التعاون في مجالات متعددة، أبرزها الطاقة، حاجة ملحّة للطرفين، خصوصاً بعدما بدت العقوبات مضرّة بالأوروبيين والروس معاً؛ بالإضافة إلى عوامل شخصية مرتبطة بماكرون نفسه، المسكون ببراغماتية وسطية، تمنحه هامشاً كبيراً من المناورة بين روسيا والولايات المتحدة.
وفي ظلّ هذه التقديرات، أتى اللقاء الأول بين بوتين وماكرون في قصر فرساي، في أواخر أيار الماضي، ليشكل اختباراً أولياً للنوايا المتبادلة. وكان واضحاً أن المناخ العام، في فرنسا وروسيا، بدا متشككاً ــ أو على الأقل حذراً ــ إزاء ما وُصف بـ«المنازلة السياسية الأولى»، بين رجلين، يتبنى كل منهما أجندة مختلفة عن الآخر، في مختلف الملفات الثنائية والدولية ذات الصلة.
هذا الأمر، دفع بالمخيلة السياسية، عند الكثير من المحللين، إلى التعامل مع كل الترتيبات الدبلوماسية للقاء، كما لو أنها استعدادات لوجستية لمعركة ضارية. يومها، على سبيل المثال، وُضع اختيار ماكرون لقصر فرساي كمكان للقاء فلاديمير بوتين، في سياق عدائي، فقال البعض إن الهدف من ذلك، تذكير الضيف الروسي بعظمة فرنسا، خصوصاً أن القصر كان مركز السلطة في العهد القديم، أي قبل ثورة عام 1789، فيما ذهب البعض الآخر أبعد من ذلك، مثل فريديرك بيامونتي مخرج وثائقي «فرساي: ملوك وأميرات ورؤساء»، الذي قال إن الهدف ربما يكون «تقزيم» بوتين، و«إشعاره بالضياع في هذا المكان الضخم»!
والواقع أن كلا التفسيرين كانا خاطئين، فالتفسير البروتوكولي لسبب الاختيار، تبدّى في معرض استضافة قصر فرساي، لتخليد الذكرى الثلاثمئة للزيارة التاريخية التي قام بها القيصر بطرس الأكبر لباريس، والتي أرّخت لبداية العلاقات الروسية ــ الفرنسية، وما أنتجته من انجذاب حضاري متبادل، ما زال حاضراً حتى اليوم، برغم الإرث الثقيل للحقبة البونابرتية.
ومن الواضح أن لقاء فرساي، قد شقّ التفريعة الأولى في مسار سياسي جديد يفترض أن تسلكه العلاقات الروسية ــ الفرنسية، خلال السنوات الخمس المقبلة. ولعلّ الكل يتفق على أن هذا المسار معبّد بالمبادرات الإيجابية، بقدر ما هو معبّد بالألغام السياسية، ما يجعل خطوات بوتين وماكرون حذرة، لا سيما عند المسالك المتعرّجة، وبخاصة في أوكرانيا وسوريا.
هذا الحذر تبدّى بشكل واضح، خلال المؤتمر الصحافي في فرساي. فالبرغم من أن ماكرون وبوتين تبادلا الكلام الإيجابي، بشأن ضرورة التعاون الثنائي الوثيق، لمقاربة كافة الملفات، ولا سيما الصراع في سوريا، إلا أن الرئيس الفرنسي تحدث حول سوريا بلهجة المستعمر القديم، حين قال: «أريد تحقيق الانتصار في مكافحة الإرهابيين في سوريا»، قبل أن يقاطعه بوتين بملاحظة خدشت الدبلوماسية، قائلاً إن «فرنسا تساهم في مكافحة الإرهاب ضمن التحالف الدولي... ولا نعرف مدى استقلالها في اتخاذ القرارات».
ومع ذلك، فإن الأسابيع التي تلت لقاء فرساي، والتي شهدت اجتماعين لوزيري الخارجية سيرغي لافروف، وجان ايف لودريان، أظهرت تقدّماً، ولو بطيئاً في العديد من المقاربات المشتركة، للكثير من الملفات، أهمها على الإطلاق، الصراع في سوريا.
وكان ملفتاً في هذا الإطار إعلان ماكرون، خلال مؤتمر صحافي بعد لقاء ترامب، أن «مسألة رحيل بشار الأسد عن الحكم في سوريا، لم يعد شرطاً ضرورياً بالنسبة إلى فرنسا»، حتى أنه ألمح إلى احتمال عودة العلاقات مع سوريا، حين قال «لقد أغلقنا سفارتنا في دمشق، منذ خمسة أعوام، ولكن ذلك لم يأت بنتيجة... يجب أن نكون عمليين»، وهو ما وصفته موسكو، على لسان مندوبها لدى الأمم المتحدة ألكسي بورودافكين، بأنه «تغيير جذري».
وعلاوة على ذلك، فقد شهد الأسبوع الماضي استئنافاً للحوار الروسي ــ الأوكراني ــ الفرنسي ــ الألماني في سياق «مسار مينسك»، الذي يهدف إلى تسوية سلمية بين المتمردين الموالين لروسيا في الدونباس وحكومة كييف.
وبالرغم من أن الوقت لا يزال مبكراً للحديث عن توافق روسي ــ فرنسي شامل، أو ذي ثقل، غير أن الواضح أن ماكرون بدأ سريعاً في ترجمة براغماتيته السياسية في التعامل مع فلاديمير بوتين. ولا شك في أن التوجه ينطلق من رؤية واقعية للمتغيرات الجديدة على مسرح السياسة الدولية، والمتأثرة بالانتقال التدريجي لمراكز الثقل في الاقتصاد الدولي نحو الشرق، بما يجعل حل الخلافات السياسية عنصراً حيوياً في إنعاش الاقتصاد الأوروبي المثقل بالأزمات الداخلية. ولعلّ تلك الواقعية تستند إلى ذاكرة تاريخية، ما زالت حاضرة في أذهان صنّاع السياسة الفرنسية، تجعلهم على يقين بأن الروس يفضلون إحراق مدنهم على أن يمنحوا مهاجميهم فرصة إعلان الانتصار الحاسم، على غرار ما فعلوه مع نابوليون بونابرت قبل نحو قرنين... وفي المشهد الراهن، لا شك في أن ثمة أشكالاً عدّة لكي يعيدوا الكرّة.

المصدر: وسام متى - الأخبار