مع أفول حقبة «داعش» في العراق، يجد عرّابو الفتنة الطائفية أنفسهم خالين من مواد أولية وأدوات لطالما شكلت عدّة حربهم في هذا البلد وعليه. من هنا، يسعى هؤلاء إلى تشغيل أدوات أخرى، تتيح لهم الاستمرار في محاربة قوى المقاومة، ومن ورائها إيران، على أراضي بلاد الرافدين. وللمفارقة، فإن رافعي لواء العروبة اليوم هم أنفسهم من وقفوا في وجه المشروع القومي الناصري بالخطاب المتلبس لبوس الإسلام.
ولم يكن طرح الملك فيصل بن عبد العزيز فكرة إنشاء «الحلف الإسلامي» في ستينيات القرن الماضي إلا محطة من محطات مواجهة ذلك المشروع. اليوم، يلقي وارثو فيصل قفاز الصراع الديني من أيديهم، متناولين قفازاً آخر يحمل «ماركة» الخطاب العروبي. هكذا، تغسل السعودية يدها من حمولات عقد كامل من الدماء والفتن، شكّل التحريض وتدفق الانتحاريين معلمَيه الرئيسين، مُعاوِدةً التسلل إلى ساحة جارها الشمالي تحت لافتة «حفظ عروبة العراق من البعبع الفارسي». لافتة ستصبح علامة لازمة للسعودية في المرحلة المقبلة، التي سيتكثّف فيها العمل، بأدوات ناعمة، على إحلال عناوين انقسام جديدة، ومقاتلة خصوم الرياض من خلالها. وما استقبال المملكة للوجه «العروبي»، السيد مقتدى الصدر، إلا خطوة متقدمة على طريق إعادة إنتاج آليات الفتن ووسائلها
قُضي الأمر وكان للسعودية ما أرادت. زعيم «شيعي» يعتمر عمّة سوداء يجلس إلى طاولة محمد بن سلمان ويحاوره. قبل أشهر فقط، كان ابن أبيه يعلن رفضه التحاور مع طهران؛ كون المسؤولين الإيرانيين يؤمنون بأن «المهدي المنتظر سوف يأتي ويجب أن يحضّروا البيئة الخصبة لوصوله... ويجب أن يسيطروا على العالم الإسلامي». أما اليوم، فلا ضير في الاجتماع بشخصية تعتقد بـ«المهدوية»، التي أَسّست، على اسمها، يوماً ما، تنظيماً عسكرياً سُمّي «جيش المهدي». مفارقة تجلّي خِواء الخطاب السعودي، وتثبت مرة أخرى، ولحسن الطالع، أن الصراع لم يكن ولن يكون إلا سياسياً متلبّساً باللبوس الديني والطائفي.
هذه المفارقة في زيارة زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، للسعودية، تصاحبها علامة فارقة أخرى لا تقل أهمية ورمزية. على أرض مطار جدة، كان في استقبال الصدر مسؤول أثخن في الجسد السياسي العراقي. المقصود به السفير السعودي السابق لدى بغداد، ثامر السبهان، الذي أقحم نفسه في كل صغيرة وكبيرة من قضايا العراقيين، حتى طفح بالأخيرين الكيل، مجبراً إياهم على طلب عملية استبدال بدت أشبه ما تكون بـ«طرد لائق». هذا الشخص نفسه تدفع به إلى الرياض إلى ملاقاة وجه بارز من وجوه «البيت الشيعي» في بلاد الرافدين. خطوة تستهدف من خلالها السعودية توصيل رسالة إلى كل من يعنيهم الأمر مفادها بأن «المملكة لم ولن تخرج من العراق».
على مدار أشهر مضت، كثر الحديث عن صفحة جديدة في العلاقات السعودية ــ العراقية. يمّم وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، في 25 شباط الفائت، وجهه شطر بغداد، معلناً تطلع بلاده إلى «بناء علاقات مميزة مع العراق»، لتكرّ بعدها سبحة المؤشرات إلى ما قيل إنها بوادر «حسن نية» تجاه بغداد. توجّه وزير الطاقة السعودي، خالد الفالح، إثر ذلك، إلى العراق، حيث منّى المسؤولين بإعادة تشغيل الأنبوب النفطي الذي يربط منشآت النفط العراقية في الجنوب بميناء ينبع السعودي على البحر الأحمر (أغلقته السعودية عام 1990 بعد الغزو العراقي للكويت)، بعدما كانت بلاده طرحت مشروع «مارشال» لإعادة إعمار «المحافظات السنية». أعقب تلك الخطوات تشكيل مجلس تنسيقي بين البلدين، واتفاق على تشكيل لجان لحماية الحدود ومكافحة الإرهاب، حتى وصل الأمر اليوم إلى الحديث عن تبادل السجناء (لطالما شكّل هذا الملف عقبة كبرى في طريق تطبيع العلاقات)، والإسراع في فتح منفذي عرعر وجميمة أمام حركة البضائع والوافدين.
على أن ذلك «الكرم» السعودي لا يبدو أنه نابع من اقتناع مستجد بضرورة إراحة العراقيين من عبء سنوات «الكيد» الماضية، وإفساح المجال أمامهم للملمة شتات دولتهم، وإعانتهم على إعادة بناء ما دمرته الحروب والفتن. على العكس مما تقدّم؛ يثبت، يوماً بعد يوم، أن «قرارات الودّ» ليست أكثر من غطاء لتخريب البيت العراقي من الداخل، توطئة لتهشيم كل عناصر القوة التي تمكنت بغداد من مراكمتها خلال السنتين الماضيتين، وفي مقدمها «الحشد الشعبي». بتعبير آخر، لم تعد سياسة تفريخ الإرهاب وتصدير الانتحاريين والسيارات المفخخة ناجعة في مرحلة يجتمع فيها العالم على محاربة الوحش الذي نمّاه، لذا لا بد للرياض من انتهاج سياسة مغايرة تتقدم فيها الأدوات الناعمة على الوسائط العنفية التقليدية.
في هذا السياق، يصبح مفهوماً أن تستقبل السعودية الوجه «العروبي» العراقي، مقتدى الصدر، في وقت يستعد فيه العراق للقضاء على آخر فلول «داعش» على أراضيه، والانتقال إلى مرحلة إعادة الإعمار. استقبال لا يمكن تأويله إلا على أنه خطوة إضافية في طريق مخطط بدأت الرياض تنفيذه منذ أن لاحت علائم هزيمة «داعش»، قوامه تعويم «الخطاب القومي العروبي» والاكتتاب فيه، بعدما بَلِيت لافتة «الدفاع عن أهل السنّة بوجه المد الصفوي» (راجع «الأخبار»، العدد ٣١٠١). من هنا، تأتي محاولة استمالة الصدر، بالاستثمار في خطابه الرافض لوجود إيران في العراق، والداعي إلى الانفتاح على دول الخليج، بدعوى «التوازن في علاقات العراق الإقليمية والدولية»، وتجنب الاصطفافات و«الانحياز إلى جبهات الصراع».
تبرّر السعودية خطواتها هذه بوجوب التفريق بين «المذهب الشيعي الأصيل ومذهب الخميني المتطرف»، على حد تعبير وزير الدولة السعودي لشؤون الخليج العربي، ثامر السبهان، في تغريدة على «تويتر» تزامنت مع زيارة الصدر. يريد السبهان، بطريقة أو بأخرى، التخلص من لوثة الخطاب الطائفي التي التصقت ببلاده خلال السنوات الماضية، والتوطئة لـ«موديل» سعودي جديد يبيح التعامل مع «الروافض» و«اليهود» وجميع «المشركين» ومن لفّ لفّهم ما دام هؤلاء في الصف المقابل لحركات المقاومة الحية في المنطقة، ومعها إيران.
الصدر، من جهته، يبدي قبولاً ورضاءً إزاء النيات السعودية، متحدثاً عن «انفراج إيجابي في العلاقات السعودية العراقية»، وآملاً «بداية تقهقر الحدة الطائفية في المنطقة العربية والإسلامية»، بحسب بيان صادر عن مكتبه. بيان يوحي، إلى جانب مؤشرات ومعطيات أخرى، بأن الصدر سيتزود التشجيع والمغريات السعودية وقوداً لاستكمال مسار خطّه منذ أشهر، عماده تأسيس زعامة خارجة من العباءة الإيرانية، ونسج علاقات توطّئ لرسم العراق الجديد على شاكلة خالية من البعد الثوري المقاوم، ومتصالحة مع النفوذين الأميركي والسعودي، مع ما يعنيانه من خيارات على المستوى الاستراتيجي.
انفتاح الصدر واستعداده للتعاون مع الرياض سيشجعان الأخيرة، على ما يبدو، على الانتقال إلى محطة أخرى من محطات مخططها. ستظهر، في المرحلة المقبلة، محاولات سعودية لاستقطاب الوجوه العراقية الساعية إلى التخلص من طابعها الإسلامي (عمار الحكيم نموذجاً)، وتشجيع مناوئي نوري المالكي في حزب «الدعوة» على الافتراق عنه والتأسيس لكيانات منفصلة تتيح توسيع هامش التحرك ضد إيران (حيدر العبادي مثالاً)، وتزخيم دعوات التيارات الليبرالية المنادية بحل الميليشيات وبناء الدولة المدنية، وأخيراً، والأهم، استغلال خطاب المرجعية الداعي إلى محاربة الفساد، واستبدال الطبقة السياسية القائمة، والقضاء على النعرات والممارسات الطائفية، وتجييره لمصلحة مشروعها.
هذه المساعي يُرجح أن تنعكس على الداخل العراقي تصاعداً في حدّة الخطاب السياسي، وتحركات تضع البلاد على حافة ما كانت ستهوي إليه إبان التظاهرات الأخيرة المطالبة بالإصلاح، في وقت تشتد فيه حاجة العراق إلى فترة استقرار تؤمن له القدرة على التخلص من إرث التنظيمات الإرهابية. سيناريوات لا يبدو، إلى الآن، أن ثمة خطة لمواجهتها لدى القوى المناوئة للمشروع السعودي. باستثناء التصريحات الرافضة لذلك المشروع، والتي كان آخرها، إبداء رئيس الوزراء السابق، نوري المالكي، تخوفه من أن يكون انفتاح السعودية على العراق لجعل الأخير «ساحة معركة»، والمساعي الجارية لتشكيل تحالفات انتخابية تسمح بترجمة إنجازات «الحشد الشعبي» على المستوى السياسي، لا تظهر مؤشرات إلى عمل جاد على منع السعودية من التغلغل في مفاصل الدولة العراقية.
هنا، تبرز المخاوف من إعادة تكرار أخطاء الماضي، التي سمحت للرياض بالنفاد من باب «تعدّد الرؤوس»، والسخط الكامن على «تطنيش» المطالبات الموجهة إلى دول الجوار كافة بالتعامل مع العراق كدولة، لا كمشاع كما بدا عقب الاحتلال الأميركي عام 2003. ولئن كان من غير المبرر، بالنسبة إلى القوى والشخصيات المضادة للخيار الأميركي السعودي، انقلاب «العروبيين الجدد» على الخيارات الوطنية، وموقع بلاد الرافدين في الخريطة الإقليمية والدولية، بدعوى «التمايز عن إيران»، فإن تلك القوى تجد نفسها اليوم أمام تحدّي تشكيل تحالف سياسي عابر للانتماءات الطائفية والمذهبية (يرى البعض في تقرب السعودية من شخصيات شيعية فرصة ذهبية لتحقيق ذلك)، وطرح مشروع بديل قادر على تطمين المخاوف، واحتواء المنافسين، واحتضان كل من يعتبر نفسه مغبوناً، وإجراء إصلاحات حقيقية لا شكلية، والتهيئة لدورة حياة سياسية تسمح بوضع قطار الدولة على سكته الصحيحة.