هم لبنانيون «منذ أكثر من عشر سنوات»... بكثير. مقيمون على هامش وطن لا يريد الاعتراف بهم، وبين سياسيين لا يريدونهم أكثر من وقود لنار معاركهم. حتى إذا ما هدأت هذه المعارك، أعادوهم إلى «الرفّ»... في انتظار معركة جديدة. كانوا 60 عائلة لم تشملها «نعمة» مرسوم التجنيس عام 1994. الإهمال والاستنسابية والطائفية أسقطتهم «سهواً» عن صهوة وطن لم يعرفوا وطناً غيره.
يتناقل أهالي وادي خالد، من جيل الى جيل، روايات أقرب الى الأساطير عن شيخ عرب الوادي، علي حسيان اليوسف، وبطولاته في مقاومة المحتلين الفرنسيين في النصف الأول من القرن الماضي، وينسبون إليه المسؤولية عن مقتل أكثر من 200 «عسكري فرنساوي». لكن مقارعة المحتل لم تشفع لهذا «المقاوم» باستحقاق نيل جنسية البلد الذي دافع عن أرضه.
أبناء الشيخ علي وأحفاده، اليوم، مكتومو القيد ومحرومون من حمل جنسية بلد لم يعرفوا يوماً بلداً غيره.
«السوق الحرة»
يتوزّع عرب الوادي وعشائره بين قرى وأحياء تحكم مجتمعاتها التقاليد العشائرية. الطرقات المؤدية الى 22 قرية وبلدة تبدو كأنها شُقَّت بحكم الضرورة التي فرضت نفسها أيام كانت المنطقة من أكبر «الأسواق الحرة» في العالم، حين شكل تهريب البضائع والاتجار بها عماد الاقتصاد المحلي في كل شمال لبنان.
لسنوات طويلة، استفاد أهل الوادي من وجودهم على طول خط الحدود مع سوريا على نهرَي الصفا والكبير، فازدهرت تجارتهم حتى بلغ عدد المحال على خط البقيعة الحدودي بين 1975 و1978 أكثر من 800. هنا، نشأت «دولة» اعتمدت، في كل مناحي حياتها الاقتصادية والاجتماعية، على الداخل السوري... حتى عام 1989 عندما قررت الدولة السورية إنهاء سياسة الحدود المفتوحة بالتزامن مع انتهاء الحرب الأهلية، مؤذنة بانتهاء العصر الذهبي. فانصرف أهل الوادي إلى الانشغال بأعمالهم الزراعية والمهنية، من دون أن يعني ذلك توقف نشاط التهريب وما يرتبط به من أعمال تجارية. الاستقرار السكني و»الانفتاح الاقتصادي» الذي شهدته المنطقة، كانت لهما آثار بارزة في تشكيل وعي جديد في كل مجالات الحياة الاجتماعية والثقافية والتربوية والسياسية، انعكس ارتفاعاً في نسبة التعليم لامست الـ 80%... إلا أن كل ذلك بقي من دون أفق. فالحرمان من الجنسية يعني الحرمان من التوظيف في دوائر الدولة اللبنانية وأسلاكها العسكرية، وتقييد الأحلام والمشاريع المستقبلية ضمن إطار جغرافي واجتماعي وثقافي محدد.
«نعمة» التجنيس
عام 1994، قرّرت الدولة أن تمنّ على أهالي الوادي من حاملي وثائق «قيد الدرس» بـ»نعمة» الجنسية اللبنانية. لكن فرحة الـ 2000 عائلة (نحو 15 ألف شخص) شابتها غصّة حرمان نحو 60 عائلة (حوالى 600 شخص آنذاك) من أبناء الوادي من هذه «النعمة». بقي هؤلاء، وهم مذ ذاك في تزايد مستمر، «مكتومي القيد»، وبقيت حياتهم معلّقة بورقة تعريف من قبل المختار تخوّلهم التنقل بين المناطق اللبنانية والتسجيل في المدارس لا أكثر.

فيما لا حقوق لهم في الاستشفاء والضمان والتملك والعمل... سابين ناصر الكايد، المتفوقة في الرياضيات في الجامعة اللبنانية، حالها من حال طلاب كثر من أبناء الوادي ممن أكملوا تعليمهم وحازوا إجازات جامعية، لكن «الطريق مسدود للحصول على أي وظيفة في القطاع العام أو الخاص».
تعايش «المكتومون»، على مضض، مع إسقاطهم «سهواً» من مرسوم التجنيس. كانت سوريا، آنذاك، لا تزال متنفساً لأبناء الوادي الذين لفظهم بلدهم. لكن اندلاع الأحداث السورية، قبل أكثر من ست سنوات، وإغلاق الحدود بين البلدين وتراجع الأعمال التجارية، وضعهم بين فكي كماشة: الحدود المقفلة من جهة، والعجز عن إيجاد فرصة عمل في بلدهم من جهة أخرى. وترافق ذلك مع أزمة نزوح خانقة (نحو 30 ألف نازح) ألقت بثقلها على المنطقة وجعلت اليد العاملة السورية تزاحمهم على مواردهم الضئيلة.

هذا الواقع أعاد فتح ملف مكتومي القيد الذين وجدوا أنفسهم عاجزين عن القيام بأي عمل، ودفع بوجهاء المنطقة الى التحرك لدى المسؤولين لحث الدولة على منح أبنائها الجنسية التي تخولهم ممارسة حقوقهم وواجباتهم كمواطنين بشكل طبيعي... إلا أنهم لم يلقوا، حتى الآن، سوى الوعود والمزيد من الخيبة، علماً بأن الدوائر الرسمية هي المسؤولة أساساً عن استثناء هؤلاء من مرسوم 1994 إما بسبب الإهمال أو الاستنسابية، أو بسبب ثغرات شابت مرسوم التجنيس.
سقطوا سهواً!
زياد اليوسف، حفيد الشيخ علي، يؤكّد لـ»الأخبار» أنه مع إقرار قانون استعادة الجنسية عام 1994 «تعاملت العائلة باهتمام مع الأمر، وتقدّمنا جميعاً بطلبات للحصول على الجنسية. لكن لم ينلها سوى واحد من أفراد عائلتنا، فيما حُرم الآخرون لأسباب مجهولة».
«الدولة تتعامل معنا كأننا خردة»، يقول محمد خضر العبدالله من بلدة الكنيسة. ويسأل: «هل يعقل أن يقال لنا لدى مراجعة السلطات بأننا سقطنا سهواً؟ بكل بساطة، نحن بلا حاضر ولا مستقبل... لأننا سقطنا سهواً!».
ويشير عطية علي الأحمد الى أنه تقدم بطلبات تجنيس له ولأفراد عائلته المؤلفة من ستة أولاد ودفع الرسوم المتوجبة، وحصلوا على الجنسية باستثناء ولده أحمد (مواليد 1976) الذي لم يشمله المرسوم «لأنه كان تحت السن عند تقديم الطلبات وفوق السن عند التنفيذ... فضاع بين المرحلتين». فيما يروي علي جاسم الحسن أنه وأشقاءه الثلاثة وأبناءهم حُرموا من الجنسية بسبب وفاة والدهم عقب تقديم الطلبات: «غلطتنا أننا صرحنا بالوفاة، فتم شطب الأسماء من المرسوم. اليوم لديّ عائلة من ثمانية أولاد وجميعنا مكتومو القيد». واللافت أن الحسن من وجهاء عشائر الوادي وبلدته حنيدر، وهو مفتاح انتخابي له كلمته المسموعة، ولكن من دون أن يكون له الحق بالتصويت. ويتساءل: «هل يعقل أن الدولة تعترف بوجودنا من خلال تدفيعنا رسوم الهاتف والكهرباء والضرائب، وتتبرأ منا عندما يتعلق الأمر بمستقبلنا ومستقبل أولادنا؟».
"هل المطلوب أن نغير طائفتنا؟ إذا كان الأمر كذلك فنحن مستعدون لأننا نريد حياة لائقة لأبنائنا"
تروي فوزية حميدة من بلدة جرمنايا أن نصف أفراد عائلتها جُنّسوا والنصف الآخر غير مجنس. إذ إن زوجها سجن في سوريا 10 سنوات، «وعند خروجه أنجبت ولدين لم تعترف الدولة بهما، ولا بحقهما في دخول مستشفى أو الحصول على وظيفة». أما محمد الأحمد (مكتوم القيد من مواليد 1990)، فيؤكد على اعتماد الاستنسابية في منح الهويات، إذ «تقدم أفراد عائلتي بطلبات التجنس، لكننا فوجئنا بمنح الجنسية لوالدتي فقط. أعتاش وعائلتي من دكانة نعمل بها، ولا يمكننا التجول أو حتى اقتناء سيارة. نعيش كفاف يومنا من دون أي أمل بالمستقبل».
أحد وجهاء وادي خالد، خالد البدوي، ناشد الرئيسين ميشال عون وسعد الحريري «إنصافنا»، و»تجاوز الإجراءات الروتينية في الوزارات المعنية لطيّ هذا الملف وإعادة هذا الحق المكتسب لأبناء الوادي». وقال: «أبناء وادي خالد حملوا دائماً الانتماء الثابت للبنان، لكن هذا الانتماء كان من طرف واحد، طالما هناك مواطنون لم تعترف بهم الدولة بعد»، متسائلاً عن مستقبل مكتومي القيد الذين لا يتمتعون بأي حقوق صحية، أو تعليمية، أو سياسية، فضلاً عن الخوف الأمني الذي يلاحقهم».
«للأسف، وزراؤنا يجوبون العالم لحث اللبنانيين على العودة واستعادة الجنسية رغم أن بعضهم لا يعرف لبنان على الإطلاق. لكنهم يغصّون بإعطاء 60 عائلة من أبناء وادي خالد حقهم الشرعي»، يقول محمد خضر العبدالله، متسائلاً: «هل المطلوب أن نغيّر طائفتنا؟ إذا كان الأمر كذلك، فنحن مستعدون لأننا نريد حياة لائقة لأبنائنا لا أكثر».
استنسابية وطائفية... وملفات ضائعة

يعدد مختار بلدة وادي خالد مروان الوريدي مساوئ مرسوم التجنيس التي حالت دون تجنيس بعض العائلات، ومنها:
أولاً، شطب بعض الأسماء من أبناء وادي خالد مقابل إعطاء الجنسية لآخرين، أي اعتماد مبدأ التفضيل على حساب أبناء الوادي.
ثانياً: مواليد عامي 1994و1995 الذين ولدوا بعد تقديم الطلبات عام 1992، لم يشملهم المرسوم رغم أنه صدر عام 1994 ونُفذ عام 1995.
ثالثاً: مواليد عامي 1975 و1976 الذين كانوا قاصرين عند تقديم الطلبات وبلغوا سن الرشد عند صدور المرسوم ضاعوا بين المرحلتين وبقوا من دون جنسية.
رابعاً: أشخاص تقدموا بطلبات التجنيس أثناء وجودهم في السجن، فدوِّن مقابل أسمائهم «لا يعطى أي مستند لحين حضوره وتوقيعه». ولدى حضورهم، كان الجواب أنهم فقدوا حقهم بالحصول على الجنسية.
خامساً: بعض العائلات تقدمت بالطلبات ودفعت الرسوم المالية المتوجبة، لكنها فوجئت بعدم ورود أسماء بعض أفرادها. وبعد مراجعات حثيثة، قيل لهم إن الملفات الخاصة بهم ضاعت في الداخلية!
ويلفت المختار الوريدي الى «حجم الكارثة الاجتماعية التي يعانيها مجتمع وادي خالد على كل الصعد»، مشيراً الى أنه «حتى بطاقة التعريف منع المخاتير من إصدارها وحصر الأمر بالأمن العام منذ عام 2011. رغم ذلك، ولغاية اليوم، لم يفتتح مركز للأمن العام لهذه الغاية. ونحن كمخاتير نعطيها على مسؤوليتنا، متجاوزين القانون». ويضيف: «هناك كارثة فعلية في حال توقيف أحد مكتومي القيد، أو ارتكابه جناية ما، لأن الكارثة هنا تقع عليه وعلى عائلته وعلى المختار الذي عليه أن يتعرف إليه ويتعهد بذلك أمام السلطات الرسمية»، مؤكداً «أن هناك أزمة على مختلف الصعد. فالمرأة المكتومة القيد، حتى لو تزوجت مواطناً لديه هوية، لا يمكنهما تسجيل الزواج، إذ توضع إشارة مكتومة القيد على الوثيقة وتعامل كما لو أنها أجنبية».

المصدر: الاخبار