مع دخول الحرب السورية عامها السابع. يُمكن القول اليوم على نحو علمي ( وبعيدا عن أبواق هذا الطرف أو ذاك ) ، إن تسونامي الربيع العربي الذي أسقط بن علي في تونس ومبارك في مصر والقذافي في ليبيا، تلاشى في سوريا وصار في حالة موت سريري. أما في اليمن، فقصة الرئيس علي عبدالله صالح تستحق مقالا منفصلا، ذلك أن الرجل بقي الرقم الأصعب في اليمن رغم التنحي.
لا بشار الأسد تنحى، ولا سقط. لا انهارت الدولة، وصار الجيش العربي السوري أكثر صلابة وخبرة بفعل القتال اليومي. أما الحلفاء، فهم اليوم في أفضل أوضاعهم: روسيا تحتكر الجزء الأكبر من الحل السوري بموافقة أميركية. ايران التي أراد خصومها ” تقليم أظافرها” في الوطن العربي صارت أكثر حضورا وبأسا. حزب الله عاد سيد الموقف في لبنان ولعب دورا مفصليا في الجبهات الأربع، أي لبنان وسوريا والعراق واليمن ( رغم فارق الدور والانخراط في كل من هذه الدول).
كان الثمن غاليا طبعا. مئات آلاف القتلى والجرحى والمعوقين. خسائر مادية ومالية هائلة. دمار كبير. لكن الموقف لم يُدمّر، على العكس تماما ازداد انخراط سوريا في محور المقاومة مرات عديدة. بينما خصوم الرئيس الأسد من المعارضة الى دول خليجية وتركيا والاطلسي وصولا الى "إسرائيل"، أما غارقون بمشاكل أخرى ( الصراع بين السعودية والامارات وقطر .الاشتباك التركي مع الكرد… المحنة السعودية في اليمن. الخ، أو القلق الغربي من المسلحين والتخلي عنهم) أو تفككوا (كما حصل مع المعارضة السورية، او لدى أصدقاء سوريا)، او صاروا يقدمون معلومات مهمة ضد المسلحين الذين دعموهم ( قطر خير مثال).
المدن السورية الكبرى (دمشق حمص حماه حلب) باتت خاضعة للدولة. القرار المركزي عند القيادة السورية وحلفائها هو الاستمرار في السيطرة على باقي المناطق مهما كلف الأمر (مثالنا على ذلك سرعة السيطرة على الحدود العراقية- السورية) ثم انهاء وجود النصرة وأتباعها في جرود عرسال….الكتلة البشرية الكبرى باتت موجودة في المناطق التابعة للقيادة السورية الحالية، فمثلا تقارير الامم المتحدة نفسها تؤكد ان ٨ ملايين نازح داخلي يعيشيون في كنف الدولة .
يمكن القول اليوم وعلى نحو علمي أيضا وباعتراف مسؤولي دول كبرى ( وبعيدا عن أبواق هذا الطرف أو ذاك ) أنه لو جرت انتخابات نزيهة وبمراقبة دولية غدا، فان الرئيس بشار الأسد سيفوز فيها وقد لا يستطيع أي معارض الحصول على ١٠ بالمئة من الأصوات لأن الضربات لن تأتيه من الدولة وانما من رفاقه اللدودين في المعارضة نفسها.
مع ذلك، فثمة ٣ عقبات كأداء باقية:
· أولها أن "إسرائيل" القلقة من تعاظم قدرات حزب الله وايران والجيش السوري، لن تستطيع قبول انكسار المشروع في سوريا الذي كان يقدم لها مشهدا سورياليا من تدمير الدول العربية الواحدة تلو الأخرى. ستحاول عرقة الوضع….
· ثانيها: أن الإدارة الاميركية الحالية بقيادة دونالد ترامب و "إسرائيل" ودول أخرى، تريد مقابل تسهيل الدور الروسي في سوريا، الحصول على ضمانات بانهاء دور ايران وحزب الله على الأراضي السورية وابعاد شبح القلق عند الحدود مع "إسرائيل". ضمانات الجبهة الجنوبية لم تكف.
· ثالثها: أن الولايات المتحدة التي اضطرت للتسليم بأولوية الدور الروسي، ترغب بالحصول على ثمن معين. يتعلق الأمر بدور سياسي وأمني، ولكن أيضا بطرق الغاز والنفط، ذلك أن الاكتشافات خصوصا في سوريا ولبنان تبدو واعدة جدا لمستقبل الغاز العالمي، ومن الصعب القبول بأن يكون لروسيا الكلمة الفصل.
أما تركيا فهي تشكل نموذجا صارخا لأسوأ هزيمة أمنية وسياسية ودبلوماسية في سوريا، ذلك ان الطموح تراجع من الصلاة في مساجد دمشق ورحيل الأسد والسيطرة على الشمال، الى مجرد ابعاد شبح الدولة الكردية…
كل هذا طبعا يجعل الأسد وحلفاءه يتصرفون من موقع المنتصر. ليس أكثر دلالة على ذلك سوى رفضهم مثلا إعادة معارضين يطرقون كل الأبواب للعودة بشروط الدولة السورية، أو رفضهم التعاون مع الاستخبارات الغربية من أوروبا الى استراليا ما لم يكن مقابل ذلك إعادة علاقات دبلوماسية….

ماذا بعد؟
الأهم حاليا هو، ماذا بعد… فسوريا خارجة من جروح غائرة اجتماعية ونفسية وطائفية وإنسانية وتعاني كارثة اقتصادية. كثير من الناس يتساءلون عن مستقبل الدولة، ما هو شكلها، ما هو نظامها، ما هي هويتها، من سيشارك في إعادة بنائها، هل سيكون ثمة دور للمعارضة … الخ.
كان المشروع الهاجم على المنطقة، يريد تدمير سوريا وغيرها. كان يريد إعادة الدول الى ما قبل مفهوم الدولة. نجح الى حد بعيد، لأن الدولة الفعلية التي فيها المواطنة أهم من الانتماءات العرقية والقبلية والطائفية لم تقم تاريخيا في وطننا العربي سوى في بعض الدول القليلة. لذلك تفككت سريعا الدول وانتعشت القوميات والأقليات والطوائف…
سوريا الآن بحاجة الى مشروعها. تستطيع أن تشكل النموذج الأهم في المنطقة. لا بل يمكنها ان تشكل القاطرة الاولى لقطار التغيير الجدي في كل المنطقة العربية.
نعم ان العالم تخلى عن فكرة رحيل الأسد لأنه اما عجز عن تنفيذ ذلك، أو لأن بعضه أراد إطالة أمد الحرب قدر الإمكان أو لدخول عوامل كثيرة على الساحة السورية (الانخراط الروسي والدعم الايراني ودعم حزب الله وانقسام العالم، والمشارفة على حرب باردة روسية- أميركية) …. ونعم ان العالم بات يرى في الجيوش العربية من سوريا الى العراق فلبنان ومصر، جيوشا ضرورية لمحاربة الإرهاب الذي صار يقتل في الغرب وتركيا والخليج وغيرها … لكن العالم يريد ان تبقى سوريا ضعيفة وغير قادرة على النهوض، لان النهوض في ” قلب العروبة النابض” يعني استعادة فكرة مناهضة المشاريع والاحلاف الغربية وعدم السماح لـ"إسرائيل" بالمضي قدما في القضاء على فلسطين…هو يعني كذلك تهديدا لـ"إسرائيل" على المديين المتوسط والبعيد…
ان سوريا مطالبة اليوم قبل الغد، باجتراح مشروع سياسي جامع أولا لابنائها بحيث لا يشعر أي طرف أنه مهمش، وثانيا لكل عربي آمن بأن المخطط الذي ضرب سوريا وسقط فيها يمكن أن يسقط في أي مكان آخر، وثالثا للعالم بحيث تستعيد سوريا دورها الحضاري الضارب في القدم والعراقة… أننسى ان دمشق هي أقدم مدن التاريخ؟.
لا شك ان الكثير من الذين يركبون الباصات اليوم منهزمين، قد اساؤوا الى الدولة السورية وأهلها، ولا شك ايضا ان الكثير من المعارضة التي ارتمت في أحضان الغرب اساءت الى نفسها ومشروعها ثم الى سوريا وناسها، لكن الأكيد ان ثمة سوريين يشعرون بالقلق حول مصيرهم لانهم ربما صدقوا يوما ما ان المسلحين القادمين من كل حدب وصوب وحتى الإرهابيين قد يقلبون الحكم الحالي ويأتون بأنهار اللبن والعسل….فيجدون أنفسهم اليوم عراة.
سيستمر الضغط الدولي على روسيا من اجل اقناع الأسد بعدم الترشح ولتخفيف الوجود الايراني ووجود حزب الله على الأراضي السورية… فماذا لو قدمت القيادة السورية مشروعا سياسيا يفاجيء الجميع ويسحب البساط من تحت اقدام الجميع؟، ذلك أن طرح أي مشروع اليوم يشعر فيه السني والعلوي والمسيحي والدرزي والكردي والاشوري والكلداني والسرياني بأنه مشروعه ، سيكون الانتصار الحقيقي في سوريا الغد…
في خطاب القسم الاولى عام ٢٠٠٠، استخدم الرئيس بشار الأسد ١٧ مرة مفردة ” العروبة” أي انها جاءت مباشرة بعد مفردة ” الوطن”…. وهو في كل مرة كان يتحدث عن أحد اهم أسباب الحرب على سوريا كان يذكر مخطط القضاء على العروبة وعلى دور سوريا فيها…وحين قيل له مؤخرا لماذا السوريون يقولون ان العروبة ما عادت تهمهم، قال ان السوريين عروبيون بالدم راقبوا رفضهم مثلا لفكرة نزع العروبة من اسم سوريا.
من غير المقبول اليوم اذا، ان نسمع من سوريين أن “سوريا أهم “. فمن يقول هذا يكون قد حقق أحد أبرز اهداف المخطط التسونامي….
لنعترف ان الأرض السورية الداخلية كانت رخوة. تعرض ناس للقمع والسجن والقهر . كانت الأحقاد كامنة تحت رماد المجتمع، وكانت أخطاء كثيرة قد ارتكبت على مدى عقود ، تماما كما حققت سوريا نجاحات هائلة وبينها الاكتفاء الذاتي والطبابة والتعاليم المجانيين وتحصين العروبة والبقاء مقاومة على مدى عقود … لكن الأرض الرخوة سهلت دخول المؤامرة لتضرب الجسد السوري وقلب العروبة النابض…
الآن فقط، وفيما المسلحون يستقلون الباصات كعنوان هزيمة مشروع، فان سوريا تنتظر من الرئيس الأسد قبل غيره، أن يطلق مشروعا سوريا عربيا جامعا، كي يقال ان سوريا انتصرت فعلا….وان مشروعها انتصر على مشروع التآمر والتدمير .

المصدر: شام تايمز