لا تزال عرسال تعيش هدوءاً لا يتلاءم مع عدد المقيمين فيها من أهالي البلدة ومن نازحين سوريين. الحركة محدودة، «لكنها أفضل بكثير من الأيام الماضية التي تلت العملية العسكرية» تقول لنا نائبة رئيس البلدية ريما كرنبي. لا يخرج الناس من بيوتهم إلا لقضاء حاجاتهم، والمشاركة في الواجبات الاجتماعية. الساحات فارغة وحركة السيارات فيها ضئيلة، وكثير منها لا تحمل لوحات.
يقول لنا أحد أبناء عرسال إن هذه السيارات هي لنازحين سوريين «ومنها ما هو مسروق من داخل سوريا». أما شرفات البيوت ومداخلها، فتشهد جلسات عائلية، أو حضوراً لنسوة ينشرن الغسيل.
تبدو البلدة كمن يعيش حالة من الانتظار، بدأت منذ عام 2014، وها هي تقترب من نهايتها. الغبار المتصاعد من جرود رأس بعلبك، والمترافق مع أصوات القصف المدفعي للجيش على موقع تنظيم «داعش»، يطمئنهم إلى أن الأمور تسير إلى خاتمة سعيدة ستعيدهم بالدرجة الأولى إلى أرضهم وأرزاقهم، ومن ثم إلى وطنهم بعد ترميم العلاقة مع قرى الجوار. عندما تنتهي معركة الجيش في جرود القاع، ورأس بعلبك، و«ما بقي من جرود عرسال» كما يشدّدون، ستبدأ البلدة حياة جديدة.
هذا لا يعني أن الحياة متوقفة حالياً. زيارتنا تزامنت مع حفل زفاف. والأعراس هنا لها عاداتها «سهرة حنّة قبل ليلة، ثم غداء في اليوم التالي» يشرح لنا عبد العزيز الفليطي، وهو يدعونا إلى مرافقته لمشاهدة التقاليد العرسالية في الأعراس. لا يفوته التذكير بأن أهالي البلدة أقاموا زفافين خلال معركة تحرير جرود عرسال من إرهابيي «جبهة النصرة» قبل أسبوعين. «لم يؤجلوا شيئاً، الحياة سارت بنحو شبه طبيعي». ويردّ محدّثنا السبب إلى أن الأهالي كانوا مطمئنين إلى نتيجة المعركة من جهة، وإلى الإجراءات الاستباقية التي نظمت داخل البلدة من جهة ثانية، منعاً لحصول سيناريوهات سيئة.
يعني هذا الكلام أن العراسلة كانوا يترقبون المعركة. «منذ شهرين ونحن ننتظر» يقول محمد نوح، نائب رئيس بلدية سابق. يشرح أن الجيش اللبناني مهّد للعملية العسكرية التي نفذها حزب الله بضربات استباقية، أبرزها مداهمة مخيمي النور والقارية في الجرود مطلع شهر حزيران الفائت. في ذلك اليوم، ألقى الجيش القبض على مطلوبين متورطين بقتل عناصر منه، وكشف عن خطط كانت تعدّ لتفجيرات داخل بلدة عرسال، وفق ما ورد في وسائل الإعلام في حينه. خطط التفجير داخل البلدة هي السيناريو الأسوأ الذي رسمه العراسلة، بسبب ارتباط المسلحين في الجرد مع النازحين الموجودين في عرسال. لكن مداهمة الجيش هذه «جعلت السوريين النازحين في حالة رعب. صار عندهم خوف لأن أي حركة تعني أنهم سيدفعون ثمنها».
كان هناك خوف أيضاً من أن يخرج مسلّحون من داخل البلدة ويفتعلوا مشكلة مع الجيش لكي يلهوه، أو أن تقصف جبهة النصرة مخيمات للسوريين وتتهم حزب الله والجيش بذلك لكي تثير الرأي العام ضدهما، «وتحطّ هيئة علماء المسلمين رحالها عندنا مجدداً»، في إشارة ساخرة إلى الدور السلبي الذي قامت به الهيئة خلال السنوات الماضية. كل هذه الاحتمالات كانت قائمة، لكنها لم تحصل، لأسباب متعددة. «أولاً، هناك الإجراءات الاستباقية التي قام بها الجيش اللبناني وحدّت كثيراً من المخاوف. كذلك فإن جهوزيته خلال المعركة كانت واضحة لنا. لقد كان الجيش مستعداً لمهاجمة أي خرق أو إرباك. الأمر الثاني، هو ما نشره العراسلة داخل البلدة عن استعدادهم لأن يقطعوا بأسنانهم أي شخص سيتعرض للجيش، لبنانياً كان أو سورياً».
نتيجة هذه الإجراءات، عمد النازحون السوريون إلى تدارك الموضوع، «فأقاموا اللقاءات بدورهم وأعلنوا ولاءهم للجيش، ونشروا الأعلام اللبنانية على مخيماتهم». يضيف محدّثنا ضاحكاً، من دون أن يبدو متأكداً من صحة ما سيرويه: «يُحكى أن أحدهم استبدل بالعلم اللبناني علم جبهة النصرة، فأمسكه السوريون وسلموه بأنفسهم للجيش اللبناني وأعادوا رفع العلم اللبناني».
يبقى سبب أساسي لعدم تدهور الأمور، هو «السرعة في إنجاز المعركة». هذه السرعة التي أراحت العرساليين، لا تزال موضع تحليلهم، وهي التي تجعل نوح يصف المعركة بـ«اللغز»: «إما أن الجماعة (جبهة النصرة) باعوا، إما أن عددهم كان فعلاً 120». وهنا يعيد طرح السؤال عن عدد المسلحين: «هل هو 120 كما قال المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم، أم أنه يتجاوز الألف؟ لو كان الرقم 120 مسلحاً فقط، فلماذا لم ينجح الجيش اللبناني في القضاء عليهم منذ عام 2014 إلى اليوم؟».
يعلّق عبد العزيز: «لا يوجد لغز. هي معركة وحزب الله دفع ثمناً فيها، وتوقفت عندما لم يعد هناك من مقومات للمعركة العسكرية على الأرض». ويضيف جاره: «صحيح، هذه معركة سقط فيها شهداء، هناك دم بذل»، لكنه يستطرد: «كان الناس يعرفون أن المعركة لن تطول، لأن هؤلاء الموجودين في الجرد لا يريدون أن يخوضوا معركة. كانوا يريدون المال». يعرف العراسلة الكثير عن «نفس أبو مالك الخضراء»، و«صولاته وجولاته» في التفاوض على المال، و«كنا نسمع إنو بدو 4 ملايين وبدو 10 ملايين». وهذا ما قاطعه الأهالي مع كلام السيد حسن: «لقد حكى مرتين قبل المعركة، وقال إنها ستكون محدودة، ووجه خطابه إلى جبهة النصرة قائلاً لهم أن لا أفق لكم وتعالوا لنتفاوض. فإذاً مسألة التفاوض كانت واردة ومفتوحة منذ البداية».
هذه الوقائع العامة، لا تمنع من الدخول في بعض التفاصيل. يضع كلّ من محدّثينا معلوماته على الطاولة، فتتقاطع لتشكل هذه الرواية: «الاتفاق مع سرايا أهل الشام منجز منذ وقت طويل، وكان ينتظر التنفيذ. وجماعة أبو مالك لم يقاتلوا أيضاً، كانوا يفاوضون قبل المعركة بكثير، حتى على ثمن السلاح الذي سيتركونه. من قاتل منهم مجموعة واحدة على خلاف مع أبو مالك. مع اندلاع المعركة، حاول أبو مالك تعزيز شروطه في التفاوض من خلال القول إن معظم النازحين يناصرونه، وأشاع بين السوريين أن من يذهب مع سرايا أهل الشام هو خائن، في وقت كان فيه الجيش يضيّق الخناق على «النصرة» ويتساهل مع السرايا، ليسهّل على الراغبين في العودة معها أن يفعلوا ذلك». على الرغم من ذلك «فقد غدرت سرايا أهل الشام بحزب الله، مع أنهم كانوا قد حصلوا على ضمانات تعيدهم إلى قراهم في القلمون. لقد سقط العدد الأكبر لشهداء حزب الله في مواجهة من قاتل من سرايا أهل الشام». هذه المعطيات لا تحتمل نقاشاً حول «قيمة المعركة العسكرية»، لأن «التفاوض ليس تهمة ترتد على الطرف المهاجم، برأيي هذا نجاح له»، يقول الجار، خصوصاً أن النتيجة «مريحة ولم تكبّد عرسال خسائر». علماً أنها كانت مستعدة للقيام بواجبها لو طلب منها «بعد كلّ ما عانيناه، صار مزاج ابن عرسال يقول: أريد الخلاص. ولو طلبت منه الأجهزة الأمنية اللبنانية أن يحمل السلاح لكان فعل، هذا هو الجو الموجود هنا».
هذا المزاج سيطر على أبناء عرسال منذ العام 2014، «يوم استبيحت الساحة للسوريين في شهر آب تحديداً. حتى من كان متعاطفاً مع الثورة السورية بدأ ينزعج. صرت تسمعين من يقول: أنا جبتك وحطيتك ببيتي، بتقوم تحمل بارودة وتقوصني؟ شو هالأخلاق وشو هالثورة العظيمة. لقد رأينا مسلحين يقتلون أطفالاً ونساء عمداً، وشاهدنا كيف خطفوا عناصر الجيش اللبناني، ونحن لسنا مع ما حصل. ومنذ ذلك التاريخ تفاقمت الارتكابات إلى أن وصلنا إلى هذه المعركة مرتاحين وكنا على ثقة أن الأمور ستحسم».
يبقى أمر واحد يجعل الرضا كاملاً عن النتائج. «أن نعود إلى أرضنا. لقد قال السيد حسن مرتين إن أرض عرسال لأهل عرسال، ونحن ننتظر». لا يبدو محدّثنا مشككاً بنية حزب الله إعادة الأرض إلى أصحابها، «وهم حافظوا على بساتيننا، من ثمار وحتى من أشجار يابسة، في مقابل استباحة كاملة للبساتين من قبل جبهة النصرة». لكن هذا التفصيل لا يلغي غياب الثقة بين أبناء عرسال وحزب الله، نتيجة سياسات خاطئة من جهة وحملات تحريض مذهبي من جهة ثانية، ما يجعل السؤال مطروحاً: «هل سينفذ كلام السيد حسن نصر الله بعد شهر أو بعد سنة. إذا نفذ بسرعة، بعد معركة الجيش ضد «داعش»، أعتقد أن العرسالي سيجري تقويماً لعلاقته بالحزب كما قوّم المرحلة السابقة في العلاقة مع جبهة النصرة. سيستيقظ تماماً من الكوما، ويجد أن مصالحه تضرّرت ابتداءً من علاقته بجيرانه وبالمنطقة، وعلاقاته حتى بمن هم أبعد من المنطقة بعدما ألصقت به تهمة الإرهاب».