في مراجعة للمقابلات الصحفية الأخيرة لولي العهد السعودي محمد بن سلمان خلال زيارته للولايات المتحدة الأمريكية التي استمرت حوالي 20 يومًا، اتّضحت الكثير من جوانب شخصيته والأفكار والتوجّهات التي تحكم سياسته الداخلية والخارجية؛ إلّا أن عمليةتدقيق بمحتوى أحاديثه في هذه المقابلات، أظهرت شيئًا من التناقض في مواقفه، علاوةً على ضحالة الثقافة السياسية والتاريخية لدى "الأمير الشابّ".

من الواضح جيدًا أن محمد بن سلمان ينظر الى الإعلام الغربي على أنه الوسيلة الفُضلى للترويج لأفكاره ومشروعه. ظهر ذلك بشكل مبكر من خلال اختياره مجلة "الايكونوميست" لتكون الوسيلة الإعلامية التي خصّها بمقابلته الأولى بداية كانون الثاني عام2016. من خلال العودة الى تلك المقابلة ومقابلته الثانية التي أجراها مع موقع "بلومبيرغ" في نيسان من العام نفسه، يمكن أن نفهم أن "الأمير الشابّ" اختار الصحافة المتخصّصة بالاقتصاد ليبدأ بالترويج لمشروعه الذي سمّاه "رؤية 2030".

 في تلك المرحلة، كان ابن سلمان يحاول تسريع الخطى لإقصاء ابن عمّه (محمد بن نايف) من منصب وليّ العهد، لذلك سعى لكسب المقبولية الشعبية أولًا، مخاطبًا عقول الشباب السعودي (الذين دائمًا ما يذكّر في مقابلاته أن نسبتهم هي الأعلى في التعداد السكّاني في السعودية) في محاولة لتهيئة هذه الشريحة نفسيًا لتقبّله بديلًا عن ابن عمّه (رجل الأمن)، وكونه يحاكي طموحاتهم.

لاحقًا مع إمساكه بتلابيب السلطة وتنفيذه خطة الانقلاب الأبيض الداخلي على كل خصومه ومنافسيه، أطلّ إعلاميًا ابن سلمان "السياسي"، الذي ركّز على دعوة صحافيين أمريكيين معروفي الانتماء والهوية لمقابلته. زاره في الرياض كلٌ من الكاتب في "نيويورك تايمز" توماس فريدمان والكاتب في "واشنطن بوست" ديفيد اغناطيوس أكثر من مرة، وفي تقاريرهما ومقالاتهما عنالجلوس معه، حاولا تلميع صورته والتركيز على وصفه بـ "الإصلاحي" في أكثر من مناسبة، على الرغم من كل المغالطات والتناقض الذي ظهر في حديثه إليهما.

قبل بدء جولته الأمريكية بحوالي أسبوعين، استضاف ابن سلمان في الرياض فريق برنامج "60 دقيقة" التابع لقناة CBS الأمريكية،وهناك صُوّرت مقابلة معه بُثت عشية وصوله الى واشنطن. في هذه المقابلة بدا واضحًا أن الأسئلة التي وُجّهت له كان متفقًا عليها مسبقًا، وإجاباته كانت محضَّرة بعناية خاصة في قضية "صفقة القرن" والمواجهة مع إيران، وكما في كل مقابلاته مع الإعلام الأمريكي – يُظهر ابن سلمان حرصًا أقلّ على رأي الجمهور العربي بما يصرّح به، على حساب استجداء اقتناع الجمهور الغربي والأمريكي به.

في المقابلة معه التي نشرتها "واشنطن بوست" في 22 آذار الماضي، أصرّ ابن سلمان على أسلوب تزييف الواقع والاستهزاء بعقول المتابعين، عندما ادّعى ازدياد عدد "حلفائه" في المؤسسة الدينية بسبب "الحوارات المطوّلة" التي يجريها مع المشايخ ورجال الدين.


 طبعًا قد لا يعلم كاتب التقرير في "واشنطن بوست" وحتى أغلب الجمهور الامريكي أن الأمور لا تجري بهذه الطريقة في السعودية،فالمشايخ لا يملكون الاعتراض على قرارات "ولي الأمر" وما من شيء إسمه "حوار" مع "علماء البلاط"، فابن سلمان الحاكم هو من يعيّنهم ويتلقون الأوامر منه وعليهم فقط أن ينفّذوا ويؤيّدوا.

أيضًا في المقابلة نفسها، يدّعي ابن سلمان في نقطة انتشار الوهابية حول العالم أن "الحكومات السعودية المتعاقبة فقدت السيطرة على هذه المدارس، والآن حان وقت تصويب المسار"، يعني بطريقة أو بأخرى يتنكّر ابن سلمان لدور أعمامه الملوك وولاة العهد وحتى أبيه الذي تولّى جمع الأموال لإرساله الى "المجاهدين" وافتتاح المدارس الوهابية حول العالم.

أما مقابلته مع "ذا اتلانتك" التي نُشرت في 2 نيسان الجاري، فكانت بارزة من حيث الحجم والمضمون الذي عرّفنا على جوانب جديدة كانت مجهولة عن "الأمير الشابّ". هو يعترف بـ "حق اليهود بأرضهم"، وعند الإجابة على سؤال يتعلّق بما يسمى "معاداة السامية" ينفي وجود عداء لليهود في السعودية، وهنا يختار ضرب مثل أظهر نظرته لنبي الإسلام محمد (ص)، عندما ادّعى أن النبي تزوّج يهودية "ولم تكن صديقته فقط".

يُلاحَظ أن ابن سلمان في أغلب مقابلاته يركّز على ذكر النبي (ص) خلال إجاباته ليحاول تبرير ما يقوم به، فيتفوّه بمعلومات مغلوطة تعكس إمّا جهلًا بالتاريخ الإسلامي أو تعمّدًا بتسطيح الحقائق، فهو ادّعى سابقًا في إحدى مقابلاته مع ديفيد إغناسيوس أن الموسيقى والمسارح الفنّية كانت موجودة في عهد النبي (ص)، وفي مقابلته مع جيفري غولدبرغ يلمّح إلى إمكانية أن يكون النبي (ص) من النوع الذي يُصادق النساء!

تجدر الإشارة هنا إلى أن ابن سلمان ربما ينسى ما صرّح به في مقابلاته السابقة، فهو في حواره مع "واشنطن بوست" أجاب على سؤال يتعلق بالوهابية، بينما أنكر وجود الوهابية من أساسها في مقابلته بعد أسبوع مع "ذا اتلانتك"، وهذا يشي بأنه لا يستجمع أفكاره ويُلزم نفسه بما قاله سابقًا، والتفسير المنطقي لهذه الحالة هي أن ثقافته السياسة ضحلة وفريقه الاستشاري لا ينبّهه للنقاط التي أصبحت من الثوابت في خطابه عند كلّ مقابلة صحفية.

في مقابلة "ذا أتلانتك" يتحدّى ابن سلمان "أيّ أحد أن يأتي بدليل على دعم الحكومة السعودية للجماعات الإرهابية". هذا التحدّي الذي أطلقه "الأمير الشابّ" يعكس انفصامًا فاقعًا، فلو أردنا الإتيان بأدلة وشواهد من أطراف عربية ووثائق "ويكيليكس" واعترافات أفراد وجهات تلقّت الدعم لاحتجنا الى عشرات المقالات، لكن يكفي أن نشير الى ما ذكره السفير الأمريكي السابق في العراق زلماي خليل زاد الذي زار السعودي بداية أيلول عام 2016 وبعد عودته الى واشنطن نشر مقالًا في موقع "بوليتيكو" نقل فيه اعتراف مسؤول سعودي بارز (لعله بن سلمان نفسه) بأن "السعودية دعمت وموّلت جماعات إرهابية سابقًا، ولا تزال تقدّم الدعم لجبهة النصرة في سوريا"1، إضافة الى ما نشرته صحيفة "فاينانشل تايمز" عام 2014 من اعتراف وزير الخارجية السعودي السابق سعود الفيصل لوزير الخارجية الامريكي آنذاك جون كيري بأن "داعش هي ردّنا على دعمكم لحزب الدعوة في العراق"2.

في مقابلته مع صحيفة "نيويورك تايمز" التي نشرت في 27 آذار الفائت، علّق ابن سلمان على وصول الصواريخ الباليتسة اليمنية الى العاصمة الرياض بقوله إن "هذه الصواريخ هي محاولة أخيرة تعكس ضعفهم". هذا التصريح الذي لا يمكن صرفه بالمفهومين السياسي والعسكري، يشي بأن ابن سلمان يعاني حالة إحباط مُزمن جرّاء استمرار مسلسل هزائمه في اليمن، فهو يقول "أي كلام" يخطر على باله يواسي به نفسه.

ربما أصبح اليوم من السهل فهم سبب ابتعاده عن الإعلام في الفترة بين تسلّم أبيه الحكم بداية عام 2015 حتى بداية 2016 (تاريخ أول مقابلة صحفية أُجريت معه)، فكلّ سياسي يفتقر الى الخبرة والمخزون المعرفي يخشى الإعلام مخافة الافتضاح، وإن اضطر الى مواجهته ستظهر مثالبه وزلّاته في فلتات لسانه، لكن وليّ العهد السعودي ربما يؤمن بأن الغرب سيجاريه بغض النظر عن دقةوصواب ما يقوله بما أنه يملك المليارات!

المصدر: علي مراد - العهد