حصل في بدايات هذا الشهر تطوّرٌ ميداني في مدينة القصير، بنت عليه وسائلُ الإعلام الإقليمية والعالمية إستنتاجاتٍ مفادها أنّ هناك بداية إنقلاب روسي على إيران و«حزب الله» في سوريا. والخبر الذي أثار هذا التأويل، لم يتجاوز بضع كلمات: «الشرطة العسكرية الروسية إنتشرت في مدينة القصير السورية على الحدود مع لبنان بالتزامن مع بدءِ انسحابِ «حزب الله» منها».
لم تصدر إيضاحات رسمية حاسمة لخلفية خبر إنتشار الشرطة العسكرية الروسية في القصير، لا من طهران ولا من موسكو ولا حتى من «حزب الله»، ما ساهم في اتّساع رقعة التكهّنات حول خلفيّاته. ولكن متابعة روايات قيادات ميدانية في تلك المنطقة، مضافاً اليها رصد كواليس النقاشات السياسية والديبلوماسية ذات الصلة بهذا الموضوع، تبرز معطيات ووقائع أساسية، يفيد إدارجُها في توضيح أسرار معادلة «الإفتراق والتلاقي» القائمة حالياً في سوريا بين إيران و«الحزب» من جهة وموسكو من جهة ثانية.

أحد هذه المعطيات معلوماتي، ومستقى من شهود عيان عسكريين في ميدان القصير، ويكشف أنّ الإنتشارَ الذي حدث للشرطة العسكرية الروسية في مدينة القصير خلال الأيام الأولى من الشهر الجاري، تبيّن بعد إستيضاحه أنّ هدفه كان «استطلاعياً»، وليس بقصد التموضع طويل المدى، وأنه أستمرّ لأيام ثم لم يعد وجوداً مهمّاً في المنطقة.

وتعزّز هذه المعلومة معلومة أخرى تكملها ولا تنفيها، وهي تفيد أنّ واقع حال فوضى التهريب والتفلّت الأمني على الحدود بين لبنان وسوريا التي تشكّل مدينة القصير ومنطقتها جزءاً منها، أصبح يشكّل صداعاً حتى للنظام السوري. فتعاظُم عمليات التهريب على اختلافها في الإتّجاهين عبر هذه الحدود، باتت تفوق قدرات «الهجّانة» (شرطة حراسة الحدود ضد التهريب التابعة للنظام السوري) على ضبطها. وما حصل أنّ دمشق قرّرت بالتنسيق مع حميميم (القيادة العسكرية الروسية في سوريا)، ضبط الوضع في المنطقة الحدودية السورية مع لبنان، وبموجب هذا التوجّه تمّ إعلام كل القوى ذات الطابع الميليشاوي، أو القوى الموازية للجيش السوري الموجودة في هذه المنطقة، بأنّ على عناصرها إما ترك السلاح أو الإلتحاق بأحد أفواج الجيش السوري المخصَّص لاحتواء الميليشيات التي كان النظامُ بناها في السنوات الماضية لتساعد الجيش السوري في حفظ مناطق يتمّ إخراجُ مسلّحي المعارضة منها.

وضمن هذا المسعى ذاته لتطبيق قرار ضبط الفوضى على الحدود مع لبنان، والناتجة في جزءٍ منها عن فوضى الحالة الميليشيوية التابعة للنظام الموجودة في تلك المنطقة، أرسلت الشرطة العسكرية الروسية مجموعة إستطلاع لدرس الوضع عن كثب في القصير ومنطقتها. ثم عادت هذه المجموعة بعد إنجاز مهمتها.

الى هنا تنتهي الرواية الميدانية لما حصل في القصير، وفي مقابلها ثمّة رواية سياسية عن سياق الخلفيات السياسية التي أتت «واقعة القصير» في إطارها، ومصدرها معلومات سياسية وديبلوماسية مختلفة.

وتذكر هذه الرواية وقائع عدة مهمة، كونها من جهة تساهم في إيضاح طبيعة التعقيدات التي تواجهها في هذه المرحلة علاقة موسكو بطهران في سوريا. ومن ناحية ثانية، تساهم في وضع «واقعة القصير» في سياق وقائع أخرى سبقتها وتلتها، وكلها ساهمت في طرح السؤال عمّا إذا كانت روسيا وإيران تتّجهان في سوريا من مرحلة التباين الى مرحلة الإفتراق:

الواقعة الأولى سبقت «واقعة إنتشار الشرطة العسكرية الروسية في القصير»، وفحواها أنّ إيران ردّت على الضربة الجوّية الإسرائيلية لها في مطار «تي. فور»، على رغم طلب موسكو منها عدم الرد. وأحدث ردّ إسرائيل على الردّ الإيراني في اليوم نفسه، أضراراً فادحة في بنية منظومة الدفاع الجوّي الخاصة بالجيش الروسي في منطقة جنوب سوريا التي يُقال إنها لم تكن مفعّلة بنحوٍ كامل بعد. وأزعج هذا الأمر موسكو، وأعتبرت أنّ الردّ الإيراني هو الذي تسبّب به، كونه إستدرج القصف الإسرائيلي.

الواقعة الثانية تفاعلت ضمن نطاق تباطؤ الرئيس بشار الأسد في تسليم الموفد الأممي ستيفان دي ميستورا لائحة اسماء مملثي الحكومة السورية في اللجنة الدستورية، ثمّ تسليمه إياها، بعد لقائه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سوتشي، ما أوحى بأنه فعل ذلك بناءً لضغط روسي. ثمّة رؤية لطهران تعتبر أنه يجب الإستثمار في الإنتصارات الميدانية في سوريا، في مقابل رأي لموسكو يريد تسريع بدء عمل اللجنة الدستورية في اتّجاه إنتاج دستور جديد، والبدء بالبحث في التحضيرات لانتخابات رئاسة الجمهورية عام 2021. ثمّة أسئلة عن ماهيّة الجهات التي ستشارك في اللجنة الدستورية الى جانب المعارضة والنظام: هيئات مجتمع مدني، هيئات مستقلّة بين المعارضة والموالاة؟ وكل هذه التفاصيل لا اتّفاقَ عليها بين بوتين والأسد، ولا بين الكرملين وطهران ومعها حارة حريك.

الواقعة الثالثة، وهي الأصعب، وتتعلّق بمدى صحة أنّ موسكو تسير في تطبيق الشرط الإسرائيلي في منطقة جنوب سوريا، والذي ينصّ على منح ضمانات روسية لتل أبيب وإنسحاب إيران و»حزب الله» منها، وانتشار الجيش السوري وحده في هذه المنطقة؟.

ساد كثير من التأويلات حول هذا الموضوع، لكن ما تجزم به مصادر متقاطعة هو الآتي: لم تطلب روسيا حتى اللحظة، من إيران و»حزب الله» الإنسحابَ من منطقة جنوب سوريا، ولا يزال الطرفان لهما وجود فيها. ما طلبته موسكو خلال حديث إسرائيل معها في هذه النقطة، هو أن تتمّ مبادلة انسحاب الحزب وإيران من جنوب سوريا بانسحاب الجيش الاميركي من التنف. وحتى اللحظة فإنّ التفسير الذي تقدّمه موسكو لدعوتها خروج كل القوى الأجنبية من سوريا، لا يزال يقصد القوات الأميركية.

وفيما لو وافقت واشنطن على صفقة خروجها من التنف قد يتطوّر موقف روسيا ليشمل إيران و»حزب الله». وحالياً، فإنّ موسكو تؤدّي دورَ ناقل الرسائل غير المباشرة بين تل أبيب وطهران. ولم تنفتح كلياً على الشرط الإسرائيلي في جنوب سوريا، ولكن بنحو مشروط بإنهاء الوجود الأميركي في التنف.

المصدر: ناصر شرارة – الجمهورية