قد يصل اليأس أحياناً للذروة، فتصبح المناشدة «رفعَ عتب»، وكأنّ الأفواهَ مفتوحةٌ لأقصى الحدود والعرق يتصبّب من الجباه لشدّة المجهود، والعروق تنفر من ضغط الجسد غير المحمول، إلّا أنّ الأصوات تخرج مكتومةً، وكأنّ الظلمَ يضع هؤلاء نصبَ عينيه ويترصّدهم ليصيبَهم بسهامه مهما حاولوا حجبَ وجوهَهم كي لا يتعرّف إليهم.
هنا في بعلبك ضاقت الأحوال بأهلها ذرعاً، ووصل بهم قطار الحياة لعام 2018 ليُفاجؤوا بأن لا أحد سوى الإهمال يستذكرهم في هذا البلد العزيز، ولا يتوانى عن زيارتهم باستمرار ليذكّرهم أنه يقف لهم بالمرصاد، وكأنه قدرهم.
«لا حياة لمَن تنادي»، عبارة قالها أهالي رأس بعلبك أمس بشراسة، وهل يمكن معاتبتُهم على حدّيتهم؟ فمعظمهم قُطع بأرزاقهم، وبعضهم تشرّد من بيته، فيما البعض الآخر عاش حسرة الموت.
نعم، صحيح أنك في العام 2018، وصحيح أنّ حتى الدول شبه المتقدّمة تبني منافذَ صَرف على كل الطرقات غير مفرّقة بين منطقة وأخرى، وتشيّد مواسير عملاقة تحت الأرض لسحب مياه السيول، وبعضها يخصّص المنازل المعرّضة للسيول بمواسير خاصة بها بجانبها، فيما لا يزال هناك في البقاع مَن يفقد حياته نتيجة هذه الكارثة الطبيعية.
نعم، الدولة تتعامل مع هذه المنطقة وكأنها جزءٌ مفصولٌ عن مسؤولياتها، فتارةً تغمرها السيول من دون أن تعوّض الدولة على المتضرّرين، وطوراً يجتاحها الفلتانُ الأمني والنشلُ والسرقةُ والرصاصُ الطائش من دون أن «تحرق الجمرةُ سوى مكانها»، ودوماً مُهمَلة ومتروكة.
مشاهد مأسوية
أمس، استحال الوصولُ الى رأس بعلبك والقاع وبلدات بقاعية عدّة أو حتى الهروب منها، فكانت مناطق منكوبة بكل ما للكلمة من معنى: السيارات الرباعية الدفع تحاول مجابَهة السيول، لكن من دون جدوى، فيما جُرفت غالبية السيارات العادية مصطحِبةً الأشجار وكل ما صودف على طريقها. وفي ما خصّ المنازل، فقد بدت وكأنها تطلب الموت الرحيم متمنّيةً لو أنها جُرفت بدلاً من أن تتعرّى من كل ما أحاط جدرانها بالدفء.
أما عن أهالي المنطقة فعيونهم الجاحظة ونظراتهم المصدومة تعكس ما كان يجول في خواطرهم من صدمة ويأس، فالكلامُ كان مستحيلاً في حضرة المصيبة التي دخلت حرمة بيوتهم من دون إذن.
على طرف الطريق، يجلس أبو طوني على كرسيه الخشبي بمحاذاة مكانٍ كان قبل ساعات يُشكّل له حديقةً صغيرةً، متأمِّلاً ما بقي من شجرات المشمش التي كان يعاملها كأولاده، يلملم بقايا ثمارها متمتماً ومتحسِّراً على «ضيعة ما حدا بالو فيها، وعلى عمر قضينا عم نفلح لناكل بعرق جبيننا تيطلع رزقنا بالآخر مش محمي حتى من غضب الطبيعة».
في الجهة المقابلة، تتحسّر هلا على رزق زوجها المتوفّي والذي تركه لها لتعيش بكرامة مع ابنها، تدمع عيناها متأسّفةً على سيارة جمعت ثمنها «ليرة ورا ليرة» لتشتريها لوحيدها فيجرفها السيل في لحظة غدر. تتأثر عند الحديث عمّا أصاب منزلها وأملاكها، لتواسي نفسها وتقول: «بالرزق ولا بصحابو، يلا بسيطة».
على بعد أمتار، دكانٌ صغير لم يبقَ من ملامحه ما يدلّ على هويّته. من خيراته كانت تعتاش المرأة الستينية شهيرة بلعيس منصور، لكنها لم تخَل يوماً أن يكون مسرَحاً لجريمة سترتكبها الطبيعة في حقها، هي التي لم تبخل يوماً عليها بما استطاعت أن تقدّمَه من عناية، فكيف لها أن تصبّ غضبَها عليها وتجازيها بقلّة الوفاء هذه؟
يوم اتّخذت شهيرة من دكانٍ قريب من مجرى السيل مكاناً لتسترزقَ منه، لم تعطِ للموت الظالم مكاناً في حساباتها، هي التي كانت مضيافة، مبتسمة دوماً وكريمة، لم تخَل أنّ نهاية حياتها ستكون رخيصةً الى هذا الحدّ. أحبّت دكانها وعملها حتى بات منزلها الثاني. كانت جالسةً فيه وقتَ هجوم السيل، آبيةً الهروب وفي اعتقادها أنّها قد تردّ غضب الطبيعة عنه جاهلة أنّ ما ينتظرها سيكون أقوى منها، وستُفاجَأ بالمياه تجتاح دكانَها وتقتل جنى عمرِها أمامها لتخنقَها بعد ذلك.
حتماً، شهيرة هي شهيدة الإهمال. وحتماً، يعيش أهالي رأس بعلبك كل يوم بيومه خائفين جشع الناس تارةً وظلم الطبيعة تارةً أخرى، فهذه المنطقة يوم كُوّنت وضع الله فيها كل ما رآه من جمال، وفي أهلها كل ما كان من طيبة، لكنه أخطأ عندما وضعها في بلد اعتقد يوماً أنه قد يصبح وطناً.