في الحادي والعشرين من آذار، ولمناسبة إطلاق البرنامج الانتخابي لحزب الله، أطل الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، ليقرع ناقوس الخطر: «نحن في مرحلة خطرة اقتصادياً ومالياً واجتماعياً وصار لزاماً على الجميع أن يتعاطوا مع قضية مكافحة الفساد في جميع مؤسسات الدولة باعتبارها أحد أهم أسباب دفع البلد إلى الكارثة». وقال: «نحن ملتزمون أن نُبقي تنظيمنا وحزبنا نظيفاً وغير متورط بأي فساد أو هدر». في الخامس والعشرين من أيار، ولمناسبة عيد التحرير، أعلن نصرالله عن تكليف النائب حسن فضل الله بمسؤولية إدارة هذا الملف «الذي سيشكل مركز الإسناد والتخطيط وجمع المعطيات وتقديم الاقتراحات».
في معركة تحرير الأرض، اعتمد حزب الله مجموعة من التكتيكات القتالية، أوصلته في الخامس والعشرين من أيار عام 2000، إلى تقديم تجربة غير مسبوقة في تاريخ الصراع العربي ـ الإسرائيلي. تجربة التحرير وطرد الاحتلال بالقوة، وتكريس الهزيمة الإسرائيلية من دون إراقة الدماء، بعكس ما كان العدو يريدها لحظة فوضى وانتقام.
في عيد التحرير الثامن عشر، اختار الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، أن يضع معركة مكافحة الفساد في خانة القضية الوطنية الكبرى (المرتبة الثانية عملياً بعد مواجهة الاحتلال والإرهاب).
أسئلة كثيرة تبادرت إلى أذهان كثيرين: هل تأخر نصرالله في حمل راية هذه المعركة. وهل استشرى المرض في الجسم، فصار علاجه صعباً... وصار الموت حتمياً. هل فرصة الإنقاذ موجودة في ظل صعوبات اقتصادية ومالية واجتماعية تهدد بانهيار البلد. ماذا يعني أن تنجح مقاومة في تحرير أرضها من الاحتلال ومقارعة الإرهاب في لبنان وسوريا، وعندما يحين أوان استراحة المقاتل، لا يجد حجراً يركن إليه ولا بشراً يتعرفون عليه؟
بين 2000 و2018 ماذا تغير؟
بعد عام 2000، أطلق حزب الله ورشة نقاش داخلي، تشبه إلى حد كبير أدبيات اليسار اللبناني منذ سنوات: تلازم التحرير والإصلاح (التغيير عند اليساريين). لم يقتصر الأمر على الداخل. في لقاء عقد بين السيد نصرالله والرئيس بشار الأسد، ولم يكن قد مضى على توليه مقاليد السلطة سوى فترة قصيرة، طُرحَ الأمر بينهما، وأن يكون الرئيس إميل لحود شريك المقاومة، في هذه المعركة. وقتذاك، كان المناخ إيجابياً، بمعزل عن تجربة لحود بصدق خياراته الوطنية التي قابلتها إخفاقات داخلية كبيرة. إلى أن جاء الاحتلال الأميركي للعراق في عام 2003 وصدر القرار 1559 عام 2004 وقتل رفيق الحريري عام 2005، فكان أن وُضعَ لبنان على خط الزلزال السياسي والمذهبي والطائفي... ولا يزال حتى يومنا هذا.
في المرحلة الفاصلة بين انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان، وبدء ولاية الرئيس ميشال عون، كان حزب الله، يشهد نقاشات غير ممنهجة، تبدت أولى ملامحها في مداخلات عدد من نواب كتلة الوفاء للمقاومة وإمساك لجنة الاتصالات التي يرأسها النائب حسن فضل الله بعدد من الملفات التي تندرج بمعظمها في خانة الفساد السياسي والأمني والمالي.
البلد ينهار بين أيدينا... ماذا نفعل؟
بدا بالنسبة للبعض أن الدولة صارت فجأة تعني حزب الله. الحزب الذي طالما تعرض للاتهام بأنه صار «دولة ضمن الدولة»، لم يتردد في إبداء حرصه، على فكرة الدولة. هو تراكم كان أحد تعبيراته قول السيد نصرالله غداة حرب تموز 2006 أن الدولة الظالمة أهون من اللادولة. حتى في موضوع المقاومة، لطالما كرر الأمين العام لحزب الله أن المقاومة حملت راية التحرير عندما تخلت الدولة عن أرضها وناسها، وعندما تكون هناك دولة قوية وقادرة وعادلة، تصبح هي مرجعية الناس وملاذهم الأول والأخير.
سؤال الناس متصل بالتوقيت. هذه مسألة محقة. قبل سبع سنوات، توجه مرجع سياسي كبير بسؤال محدد إلى السيد نصرالله: هل نضع أولوية مكافحة الفساد عنواناً وحيداً للبيان الوزاري للحكومة الجديدة (حكومة الرئيس نجيب ميقاتي)؟ فأجابه السيد: هذه ليست أولويتنا في هذه اللحظة. الأولوية لتجميع حلفاء وأصدقاء. بالطبع، كان البلد، في تلك اللحظة، عالقاً بين سندان أزمة داخلية صعبة وبداية أزمة سورية مفتوحة على احتمالات كبيرة وكثيرة.
إذن التوقيت صار مناسباً. وهو توقيت سياسي واقتصادي ـ مالي بامتياز. وجود عهد على رأسه العماد ميشال عون. وجود مجلس نيابي محكوم بلعبة أكثرية وأقلية متحركة وفق العناوين. وجود حكومة محكومة بقواعد اللعبة نفسها. قوة ضغط دولية من أجل إطلاق برنامج إصلاحي إقتصادي - مالي، ولو كانت أهدافه مختلفة. استشعار جميع أهل القرار الاقتصادي بأن قدرة النظام على تمديد حياة «النموذج» تكاد تستنفذ، وبالتالي، «رح يوقع البلد بين أيدينا»، فهل «نقف مكتوفي الأيدي ومجرد متفرجين»؟
ما عجزت عنه الشهابية يتنطح له حزب الله
لن يقبل حزب الله بأن يخوض معركة إقليمية ينتصر فيها على الإرهاب، ولا يجد المقاومون في النهاية سوى ركام بلد قاتلوا لأجله حتى في ساحات، لم يكن يتوقع أحد أن يكونوا فيها، وما زالوا يقدمون كبير التضحيات...
ولكن خوض المعركة، ولو متأخرة، ضد الفساد، لن يبقي للحزب صديقاً أو حليفاً. وفي المعركة ضد الفساد، ستجد لا دولة. ستجد نظاماً طائفياً قائماً على الزبائنية السياسية. أركانه ثابتة. حتى فؤاد شهاب نفسه كفر بهذه الدولة التي حاول إصلاحها. شرح في بيان عزوفه التاريخي عن الترشيح للرئاسة في عام 1970 أن تجربته في السلطة أقنعته بأن شعبه ليس جاهزاً للتخلي عن العقلية الإقطاعية والاقتناع بأهمية الدولة الحديثة.
لم يتغير «الشعب» بل تبدلت وجوه الاقطاع. سنة بعد سنة، ابتعد لبنان سنوات ضوئية عن فكرة الدولة. لذلك، يصبح السؤال البديهي: هل يمكن للحرب ضد الفساد أن تنتصر إذا تم تأبيد هذا النظام الطائفي ولم تفتح نوافذ الإصلاح والتغيير الحقيقية؟
في المعركة ضد الفساد، تفتقد الوعاء الحاضن. أين الهيئات الرقابية والقضاء المستقل، وقد بلغ الفساد صميم هذه البنى الإصلاحية التي ورثناها من العهد الشهابي، وحاولت العهود من مطلع السبعينات حتى يومنا هذا، تهشيمها وتقزيمها حتى صارت مجرد هياكل أو أشباح.
وزير شاطر أم فاسد؟
في المعركة ضد الفساد، يقول مرجع كبير إن أحد الوزراء «شاطر بامتياز». تسأله عن مكمن الشطارة وهو بالنسبة لآخرين «فاسد بامتياز»؟ يجيب المرجع نفسه أنه حاول طيلة سنوات أن يجد دليلاً واحداً يدين هذا الوزير ولكنه لم يجده حتى الآن. صارت «الشطارة» بالسرقة والفساد من دون ترك بصمات وهذه «مهنة» بحد ذاتها، سواء أكان اسمك رئيساً أو وزيراً أو نائباً أو مديراً عاماً أو موظفاً من أية فئة كانت.
في المعركة ضد الفساد، ثمة مافيات مصرفية وعقارية موجودة في صلب السلطة. قبل شهور قليلة، وفي إحدى جلسات مناقشة تمويل سلسلة الرتب والرواتب، كاد نصاب الهيئة العامة للمجلس النيابي يطير. لكن، ما إن بدأ نقاش الضرائب المفروضة على القطاعين المصرفي والعقاري، حتى توافد النواب، واحداً تلو الآخر، لإسقاط هذه الضرائب. النواب هم أعضاء مجالس إدارات في مصارف أو في شركات تطوير عقاري أو وكلاء (محامين) عنهم أو شركاء بالمباشر في الرساميل، وبطريقة سافرة جداً.
في المعركة ضد الفساد، توجد بنية أمنية تتواطأ أحياناً ضد مصالح الدولة. حتى مفهوم الأمن القومي، يختلف بين جهاز وآخر. تكفي قضية الإنترنت غير الشرعي وشبكة الباروك وتنصت الأجهزة والتجسس الإسرائيلي والاتفاقية الأمنية الشهيرة بين قوى الأمن الداخلي والأميركيين، للتدليل على حجم الاختراق وانحراف دور بعض الأجهزة الأمنية.
مافيات في كل الزوايا
في المعركة ضد الفساد، بنيان طويل عريض يحتاج إلى تدمير. صار راسخاً في أذهان عامة الناس، بأن لا معاملة تمر من دون مقابل. أبسط حقوق الناس عرضة للابتزاز. نتحدث هنا عن المياه والكهرباء والهاتف. أين تبدأ المافيات وأين تنتهي. مافيا المولدات الكهربائية، مافيا الفانات، مافيا المياه، مافيا المخدرات، مافيا الأدوية، مافيا اللحوم والأطعمة الفاسدة، مافيا الطحين الفاسد ومافيا البلديات التي تشرع مجاريها على أنهار كالليطاني تروي معظم خضار وفواكه اللبنانيين، فتتكشف سنوياً أرقام خيالية للمصابين بمرض السرطان وغيره من الأمراض المستعصية؟
في المعركة ضد الفساد، تجد مافيا في المدرسة والجامعة والضمان والمستشفيات. حتى المافيا موجودة في المقابر والمآتم واحتكار حفلات الأعراس. في البحر والنهر والجبل والهواء. مرامل وكسارات وانتهاكات غير مسبوقة للملك العام والمشاعات.
لا يأتي طرح الأسئلة والعناوين من زاوية تيئيس الناس بأن محاربة الفساد هي مهمة من رابع المستحيلات. بل للقول إن حزب الله، وتحديداً أمينه العام، يدرك حجم المهمة التي أخذها على عاتقه شخصياً وأوكل أمرها إلى فريق حزبي متخصص بقيادة النائب حسن فضل الله الذي صار اسمه ملازماً لطرح عناوين تصب في خانة معركة مواجهة الفساد.
البعض لم يتردد في إبلاغ حزب الله بصراحة: «هذه آخر خرطوشة، فإذا لم ينجح الحزب في معركة حماية الداخل وبيئته الحاضنة اجتماعياً، الله يرحم لبنان، وليبحث كل واحد منا عن وجهة للهجرة».
إستراتيجية لمحاربة الفساد
منذ ثلاثة أسابيع، لا تهدأ ورشة التحضيرات الحزبية. الفريق الداخلي قيد التكوين وسيكون قابلاً للتمدد تبعاً لما يتشعب من ملفات. الأولوية للخبراء والمتخصصين. سيكون للفريق مقره، أي عنوانه الذي يقصده الناس ويتواصلون مع العاملين فيه. ليس المقصود أن يتحول صندوق شكاوى. هذه ليست مهمة الفريق أو المكتب. الأولوية هي للملفات الكبرى. ليس المطلوب فتح ملف دركي أو موظف يقبض رشوة على مخالفة، ولا فتح ملف بلدية تهدر مالاً. الفريق المكلف بصياغة إستراتيجية لمحاربة الفساد سيضع خطة ويبدأ عملية تجميع الملفات، شرط أن تكون موثقة بالكامل ولا يشوبها عيب من أي نوع كان.
هذه الورشة يفترض لا بل من واجب كتلة الوفاء، أن تواكبها بضخ اقتراحات قوانين يتولى الدفع بها الفريق الوزاري أو النيابي الحزبي، سواء باتجاه السلطة التنفيذية أم التشريعية... على سبيل المثال لا الحصر، يجري نقاش حول آلية التوظيف في مؤسسات الدولة كلها، من أمنية وعسكرية وإدارية. نقاش يدعو إلى حصر هذه الآلية بمجلس الخدمة المدنية. بعض المؤسسات العسكرية والأمنية بدت متحمسة للفكرة. الامتحانات الصحية والرياضية تجريها هذه المؤسسات، أما الخطية، فيتولاها مجلس الخدمة. هذه نقطة جوهرية لتكريس معيار الكفاءة، ولا تتعارض مع ضرورة أخذ التوازن الطائفي في الاعتبار.
الشراكة حتى في الإدارات العامة
هي معركة بكل معنى الكلمة، وحتما لا بد من شركاء في خوض غمارها. من أقرب الحلفاء إلى أبعد الأخصام، وبينهما أصدقاء وقطاعات ونقابات مهن حرة وتشبيك حيث يلزم مع كل الأطر التي تريد الانخراط في هذه المعركة. لا أحد بوارد فتح ملفات قديمة، سواء عمرها من عمر الاستقلال أو من عمر جمهورية الطائف.
بعد تأليف الحكومة ونيلها الثقة، واستكمال ورشة اللجان النيابية، يفترض بالفريق الحزبي أن يحدد «ساعة صفر»، سيكون حضور وزراء حزب الله في الحكومة، جزءاً لا يتجزأ منها. للمرة الأولى، سيضع الحزب يده على حقيبة خدماتية وازنة، بحسب الاتفاق مع رئيسي الجمهورية ومجلس النواب، ما يعني أن هذه التجربة يجب أن تفرض نفسها أمام الجمهور العريض، خصوصاً بالشفافية وعدم الاستنساب والحرص على المالية العامة وتقديم أفضل خدمة للناس بأوفر وأقل سعر ممكن. أن يكون حزب الله في بطن الدولة ومؤسساتها، وقريباً جداً في صلب إداراتها العامة بالشراكة الكاملة مع حركة أمل، هذا ليس ترفاً، إنما يضاعف قيمة التحدي. تحدي تحويل معركة محاربة الفساد إلى إستراتيجية وطنية. تجربة وزارية منشودة يفترض أن يواكبها الفريق النيابي، برفع الصوت في الهيئة العامة والامساك بملفات ومتابعتها حتى تصل إلى خواتيمها.
المطلوب تحميل القوى السياسية مسؤولياتها، طالما يتباهى معظمها بحمل راية محاربة الفساد. هي قضية رأي عام أيضاً من خلال تكثيف حضور الحزب في وسائل الإعلام، على أنواعها، كما في وسائل التواصل الاجتماعي.
لا أوهام عند حزب الله
لا أوهام عند حزب الله بأن محاربة الفساد أو تفعيل عجلة الدولة يحتاج فقط إلى كبسة زر، فقد أثبتت تجربة الفراغ والتعطيل، الحكومي أو المجلسي، أنها صنو الفساد واستغلال السلطة، بحيث يخرج كثيرون عن الأصول الدستورية أو القانونية أو الإدارية، ما يعني أن محاربة الفساد لا تكون إلا من ضمن الدولة وبمنطق الدولة نفسها، لا بمنطق الجزر والمربعات أو المعسكرات.
الأساس أيضاً أن يحاول حزب الله التوفيق بين عدم تهاونه في هذه المعركة وبين عدم انعكاس هذه الحماسة السياسية، على طبيعة علاقته بحلفاء سواء أكانوا قريبين جداً أو بعيدين. هذه المعادلة كانت موضع مناقشة في كل اللقاءات التي عقدها السيد حسن نصرالله، غداة الانتخابات النيابية.
فضل الله لـ»الأخبار»: هدفنا حماية المال العام
قال النائب حسن فضل الله لـ«الأخبار» إننا في مرحلة التحضير لمعركة مكافحة الفساد «ولم نباشر الخطوات التنفيذية، وأكد أن الملفات التي سنعمل عليها مرتبطة بالمال العام لأن هدفنا حمايته، حماية للدولة ومؤسساتها وحماية للشعب اللبناني كله، وأي ملف سنطرحه سيكون متكاملا ومدققا من جميع النواحي ومدعما بالأدلة والبراهين».
وشدد فضل الله على أنه لا مكافحة للفساد بالتراضي، بل علينا تحويل هذه المعركة إلى قضية وطنية كبرى، يشترك فيها الجميع حكومة ومجلسا نيابيا وقوى سياسية بمعزل عن الإعتبارات السياسية أو الحزبية أو الإجتماعية الضيقة.
وأكد أن الحزب، وفي سياق التحضير، حدد مجموعة من السياسات العامة، وهي ورشة كانت قد سبقت الإنتخابات الأخيرة، ولكن تم تزخيمها في في ضوء خطاب الأمين العام لحزب الله في مناسبة عيد التحرير.
وأكد فضل الله، بصفته مسؤولا للملف، على مجموعة من الضوابط، وأولها أن تكون الملفات التي ستتم مقاربتها موثقة ومستوفية الشروط وليس كيفما كان أو بطريقة إنتقائية، وثانيها، أن تكون هذه القضية وطنية ولا تخص حزبا، وثالثها، أن يكون الهدف هو الحد من الفساد وحماية المال العام ورابعها، تحصين هذه المعركة بسلسلة من القوانين، على قاعدة أن الوقاية خير من ألف علاج، وخامسها، الشراكة مع الرأي العام من دون أن يكون القصد هو خوض معارك إعلامية، «فإذا أمكن أن نعالج ملفا بهدوء لن نتردد في ذلك».
وأوضح فضل الله أن حزب الله سيخوض هذه المعركة من قلب مؤسسات الدولة حماية للدولة، وقال ردا على سؤال إنه ليس في قاموس حزب الله شيء إسمه الهزيمة أو الإنهزام سواء في هذه المعركة أو في غيرها من المعارك.