كلما انقضى أسبوع على تكليف الرئيس سعد الحريري، زادت العقد وكثرت العثرات. فمن توزع الحقائب، انتقل الخلاف إلى الرئاستين الأولى والثالثة، لتطرح أسئلة حول التسوية الرئاسية. هل من ينقذها؟
حين سأل البطريرك الماروني الكاردينال بشارة بطرس الراعي «من الذي وضع العرف بأن كل أربعة نواب يحق لهم بوزير واحد»، كان يعرف حقيقة إلى أين يصوب أسئلته. استكمل ذلك بسؤال آخر: كيف لا يمكن توزير شخصيات لها وزنها ولو لم تكن ممثلة في المجلس النيابي، ولماذا لا يحق لحزب ما أن يتمثل بوزير له قيمته المعنوية والفكرية ولو لم يحصل هذا الحزب على أربعة نواب؟ يلتقي سؤال الراعي الأخير مع ما يطرحه مرجع سياسي كبير «ما الذي يمنع وفق ذلك تشكيل كتلة من نائبين مسيحيين من تكتل ما، مع نائبين مسلمين من تكتل آخر، (وهو ما يتداول به حالياً)، فهل يحق لهذه الكتلة الجديدة أن تتمثل بوزير في الحكومة الجديدة»؟.
أسئلة الراعي لم تقف عند هذا الحد. هو دعا من يراجعه في الوضع الحكومي إلى العودة «إلى الكتاب» اقتداء بما كان يقوله الرئيس الجنرال فؤاد شهاب. أين الدستور في كل ما يجري من بحث في التوزير وفي الوضع الحكومي؟ هو السؤال الأساسي الذي يشغل بال بكركي. لا ينفي ذلك وجود أسئلة أخرى تشكل تحدياً أمام رئاسة الجمهورية بعد الانعطافة الأخيرة في وجه حلفائها وخصومها على حد سواء.
فموقف رئيس الجمهورية العماد ميشال عون من رئيس الحكومة سعد الحريري وتصرف وزير الخارجية جبران باسيل، بات يثير نقزة تيار المستقبل ودار الفتوى ورؤساء الحكومات السابقين وخلفهم الشارع السني، بما يتعدى موضوع الحكومة، ولا يصب ذلك في مصلحة رئاسة الجمهورية والتسوية الرئاسية. فهل من المفيد أن يستعيد عون ووزير الخارجية الخطاب العوني تجاه رئيس الحكومة وما يمثل من واقع سني، كما حصل بعد عام 2005، لا سيما أن ما ينقل عن عون في مجالسه لم يعد سراً ويثير حفيظة الحريري ومحيطه إلى حد طلب توضيحات حول حقيقته. فإن يتبنى عون مطالب شخصيات سنية معارضة لتيار المستقبل وتمكنت من الفوز في الانتخابات، لا يعني أنه بمقدوره أن «يستضعف» الحريري الذي حاز أكبر كتلة نيابية سنية، خصوصاً في ضوء اصطفاف المرجعيات الدينية والسياسية الأولى في الطائفة. لا يمكن وفق ذلك التقليل من حجم التكتل الذي يقف وراء الحريري، ولا يصب في مصلحة رئاسة الجمهورية أن تكون ضده، لا سيما أن الحريري عاد ليحظى اليوم بدعم سعودي معزز، ومن المبكر القول إن عون يرغب في توتير العلاقة مع السعودية.
كذلك، فإن رئيس الجمهورية، ومعه باسيل، يخوض مواجهته ضد الحريري من دون غطاء مسيحي، فلا بكركي تقف إلى جانبه ولا حكماً القوات اللبنانية، حتى أن مسيحيي قوى 8 آذار وأولهم تيار المردة لا يمكن أن يتفقوا معه في هذه المواجهة. فالمعركة الحالية لا تتعلق بحقوق المسيحيين المهدورة، وهذا العنوان لم يعد جذاباً ولا يعني بكركي لأنها تعرف خلفيته الحقيقية، ولا ينسجم مع الأطراف المسيحية التي تفرجت خلال الأشهر الماضية على نيل التيار الوطني الحر وحده معظم المناصب والمصالح المسيحية. ولا يتعلق أيضاً بصلاحيات رئاسة الجمهورية. هنا، يصبح موقع عون «مسيحياً»، مختلفاً عن موقع الحريري الذي يدافع عن صلاحياته، مستنداً إلى عصب سني واضح.
وإذا كان عون يخوض معركته أيضاً مع رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، فإنه لا يحظى بتغطية من حزب الله وحركة أمل، اللذين يصران على مروحة واسعة من القوى المنضوية في ظل الحكومة، وتحديداً من دون قبول الرئيس نبيه بري الذي لا يزور بعبدا ولا يتدخل في موضوع التأليف الحكومي خلافاً لما جرت العادة.
بكركي تسأل: «أين الدستور في كل ما يجري من بحث في التوزير وفي الوضع الحكومي»؟
يمكن هنا الإضاءة بقوة، بحسب مصدر سياسي مطلع، على دور رئيس المجلس الذي كان يتوقع البعض أن يواجه وزير الخارجية جبران باسيل قبل الانتخابات النيابية بعد الانتقادات التي شنها الأخير عليه. لكن بري استوعب الوضع بهدوء، ولم ينسحب من التفاهمات النيابية، ومرر مرحلة انتخابات المجلس وهيئاته، بأكبر قدر من الاستيعاب. كان بري يعرف تماماً ومنذ أن أصبح نادر الحريري خارج الصورة، أن الحريري في طريقه إلى تغيير الطريق الذي سلكها منذ التسوية الرئاسية، وأنه مقبل عاجلاً أم آجلاً على مواجهة مع العهد ووزير خارجيته. استوعب بري صعود باسيل وإيكال عون إليه مهمة إدارة شؤون الدولة، وجلس يتفرج على الحريري يخوض أولى مواجهاته معهما سوياً. ليس تفصيلاً أن يكون طرفان من خارج التسوية الرئاسية، أي بري وجنبلاط، على مسافة من العهد، وأن اثنين من أركانها، أي الحريري وجعجع، يقفان سوياً ضد أسلوب عون وباسيل في تشكيل الحكومة. وهذا يضع التسوية كلها في مهب الريح.
فبغض النظر عن الأسباب التي دعت الحريري إلى انعطافته الأخيرة، سواء كانت السعودية أو أنه استوعب نتائج الانتخابات النيابية التي حققها جنبلاط درزياً وسمير جعجع مسيحياً، فأراد استعادة التحالف معهما، على حساب تحالفه مع عون، فإن الحريري اليوم هو غير الحريري الأمس، والتناغم بينه وبين باسيل لم يعد يتقدم على غيره. ومحيطه يتحدث عن محاولة عون تكثيف الرسائل والاستمهال في ترتيب مواعيد حاسمة مع باسيل لتفعيل النقاش الحكومي، في انتظار تحقيق خرق ما يكون باسيل عرابه الأوحد. لذا يصر الحريري على تكرار حصر التشكيل به وبرئيس الجمهورية، علماً أن كل من له صلة بالطرفين يتحدث عن أن الاشتباك الحالي بين الرئاستين الأولى والثالثة لا بد أن يفرض قواعد جديدة في أي حكومة ستبصر النور، لا تشبه تلك التي عرفتها الحكومة الحالية.
منذ استقالة الحريري من السعودية، هذه أولى تحديات التسوية الرئاسية الحقيقية، فهل تصمد أمام ضغط السعودية ومعركة جنوب سوريا، والتموضع الداخلي الجديد؟.