سيناريو يتكرر بين دولة الاحتلال والشعب الفلسطيني؛ فالفلسطينيون يطالبون بأبسط حقوقهم والمحتل يماطل ويستهين، حتى إذا ما نجح الفلسطيني بإبداع وسيلة ضغط ناجعة عليه ثار وصاح قائلا "سأعطيكم، ولكن بعد أن تتوقفوا، وإن لم تتوقفوا فسوف أعاقبكم إلى درجة الحرب"، وعندها يحتدم النقاش بين الفلسطينيين أنفسهم ما بين قائل "فلنتوقف لتجنب الأسوأ"، وآخر يقول "لنستمر حتى تحقيق أهدافنا، وليكن ما يكون"، وثالث يبحث عن منزلة ما بين المنزلتين، يضمن من خلالها حقه ويمنع على إثرها مآسٍ محتملة لحرب متوقعة.

ثلاثة خيارات تكتيكية تقف أمام الشعب الفلسطيني ومقاومته الشعبية الباسلة في قطاع غزة، في موضوع تكتيكي بحت لابدّ ان يخضع لأهداف الشعب الفلسطيني العامة واستراتيجيات مقاومته الكبرى.

أما الخيار الأول فهو التوقف الكامل عن البالونات والطائرات الحارقة، مع الاستمرار في بقية فعاليات مسيرات العودة، لإسكات طبول الحرب، الأكيدة أو شبه الأكيدة، القادمة من دولة الاحتلال، وذلك على قاعدة "أهون الشريْن وأخف الضرريْن". يعاني هذا الخيار من إشكاليتيْن مركزيتين: الأولى أنه يسمح للاحتلال باستمرار سياسة المماطلة والتسويف والحصار، فنتنياهو لا يعمل ولا يتخذ القرارات إلا تحت ضغط أحد ثلاثة عوامل (الرأي العام، زوجته سارة، وخطر حرب زائدة ولا معنى لها)، أما الإشكالية الثانية فهي الصعوبة النسبية في العودة إلى نفس هذه الوسيلة، وخاصة في حالة وقفها تحت الضغط.

الخيار الثاني هو الاستمرار بإطلاق الطائرات والبالونات الحارقة بنفس الدرجة أو تصعيدها حتى تحقيق الأهداف المشروعة، ولئن ظهر أن هذا الخيار شجاع وبطولي ومتحد ويتمتع بدرجة من العدل، "فالمحتل يقاوم والمظلوم ينتفض"؛ إلا انه يتجاهل حقيقة ضغط الرأي العام الإسرائيلي على نتنياهو ليتشدد عسكريًا ضد غزة، بسبب "البهدلة القومية" التي تعرضت لها إسرائيل نتيجة عجزها عن وقف اندلاع الحرائق في مستوطنات غلاف غزة، فالشعبوية والمزايدات تنتظر ما تمتطيه من مواقف قد تظهر عقلانية من قبل الجيش ونتنياهو، ممّا يرفع احتمالية الاندفاع نحو حرب لا تريدها غزة، مع أنها لا تخشاها إن أغلقت الأبواب، كما أن هذا الخيار يحمل نسبة مخاطرة واضحة بتضييع فرصة معقولة لتخفيف الحصار عن الشعب الفلسطيني في غزة.

وإزاء هذه الإشكالات المركزية المصاحبة لخياريْ الحسم السابقين، وبمعزل عن كل ما قد يُقال من ضغوطات وتحذيرات ضد المقاومة؛ فلم يبقَ أمام الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة في غزة إلا خيار المنزلة ما بين المنزلتين، بمعنى ألا يتم التوقف الواضح لأنه وصفة لاستمرار سياسة المماطلة ومعها سياسة الحصار الخانق، وألا يتم الاستمرار بنفس الوتيرة السابقة من عمليات الإطلاق، لأن هذا يرفع احتماليات حرب المزايدات، وقد يمس بأحد أهم أصول وقواعد الاستنزاف، أي عدم جر العدو واستفزازه لتفعيل كامل قدراته وطاقاته الهائلة.

المطلوب إذًا هو المناورة بين درجات متفاوتة من تخفيف عمليات الإطلاق إلى حين التأكد من أن الحد الأدنى من مطالب الشعب الفلسطيني في غزة على وشك التحقيق، فعندها يمكن إيقاف هذا الأسلوب من أساليب المقاومة والاستمرار في إبداع فعاليات وأشكال جديدة من المقاومة الشعبية، والتي لا يمكن أن تتوقف إلا بزوال الاحتلال، فإن لم تتحقق مطالب الحد الأدنى فمن خفف - وبخلاف من توقف - يسهل عليه العودة والاستئناف.

بقلم: ناصر ناصر

المصدر: أطلس للدراسات