على مدى أشهر، عاين الشهيد القائد خالد بزي (الحاج قاسم) مسرح عملية الأسر قبل تنفيذها، اقترب خلالها عدة مرات من السياج التقني من مسافة صفر، ليحدد مكان الخرق بالتحديد وكيفية عبور المقاومين بعد تفجيره. وعلى مدى أشهر أيضاً، استمرت المناورات التدريبية في بيئة تحاكي بنحو دقيق مكان تنفيذها، بإشراف القائد العسكري الحاج عماد مغنية. بعدها، بقي المجاهدون عدة أسابيع ينتشرون في نقاط حددتها قيادة العملية مسبقاً في خلة وردة، في خراج بلدة عيتا الشعب، بانتظار تقدم الهدف إلى نقطة الكمين المحددة.
لم تكن الدقائق ثقيلة الوطء على المقاومين وهم ينتظرون أن تأتي الدوريات الإسرائيلية إلى نقطة المكمن. صبروا أشهراً طويلة، وجاء ثمر صبرهم في 12 تموز 2006.
«صباح الخير. دورية أخيرة. أتمنى للجميع الفرح»؛ الساعة 8.45 صباح ذلك اليوم. كان هذا أول نداء يوجهه قائد الدورية الإسرائيلية «إيهود غولد فاسر» ليتأكد من اتصاله بالمركبة التي تسير خلفه. سارت المركبتان «يسيمون 4» و«يسيمون 4 أ» التابعتان للدورية الحدودية الخاصة بمسح الأثر وتفقد السلك على الطريق الحدودية. لاح لمجموعات الرصد في المقاومة تقدم القوة العسكرية الإسرائيلية على الطريق الداخلي الرابط بين مستعمرتي «زرعيت» و«شتولا»، باتجاه الترقيم الحدودي «نقطة 105».
الشهيد علي صالح
في المقابل، عند الساعة 8.55، رصدت وحدة المراقبة التابعة للجيش الإسرائيلي في منطقة «زرعيت» عنصراً مسلحاً من حزب الله يحمل صاروخاً مضاداً للدروع، وهو على مسافة لا تبعد كثيراً عن موقع الوحدة. لم يجرِ التعامل معه، ولا حتى الإبلاغ عنه.
الساعة 8.57، أعاد «إيهود غولد فاسر» التواصل مع المركبة خلفه. كان هذا آخر تواصل بين المركبتين.
ببطء، تقدم جنود الإحتلال على الطريق الوعرة المؤدية إلى نقطة خلة وردة، وهي ميتة عسكرياً لوقوعها في أرض منخفضة، ولأنها كذلك لم تكن خاضعة لوسائل المراقبة الإسرائيلية. كل هذا كان تحت أنظار غرفة عمليات المقاومة ومسامعها، التي أبلغت القيادة في الغرفة المركزية الخاصة بمتابعة الموضوع، بما يحصل على الأرض.
بدوره، أوعز الحاج قاسم (خالد بزي) إلى جميع المقاومين بجاهزية التنفيذ، وتجهيز العبوات لخرق السلك. أمسك بمنظاره ليحدد سرعة آليات الهامر الإسرائيلية القادمة. ثم حمل بندقيته واقترب إلى حافة الخلة مقابل مكان الخرق ليدير العملية من هناك.
بلال عدشيت في خلة وردة
حصلت المواكبة لحظة بلحظة، في انتظار مجيء الهدف. وُضعت جميع الوحدات في حالة الاستنفار القصوى. وعلى رأسها الشهيد علي صالح (بلال عدشيت/استشهد في حرب تموز 2006). ذَخَّر الأخير مدفع الـ «B9» بقذيفة ضد الدروع. السلاح الذي كان قد اختير بالتحديد لتميزه بسرعة وصول قذيفته من القاذف نحو الهدف (800 متر/ ثانية)، وهو ما يساعد على تكريس عامل المفاجأة. أما قذيفته، فاختيرت لأنها تُخفف من احتمالية قتل الجنود، عكس العبوة التي استخدمت في عملية الأسر في شبعا في عام 2000. وهذا ما كان قد لفت إليه الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله بعد تبادل الأسرى عام 2004، بالقول إن العملية المقبلة يراد بها «الحصول على أسرى أحياء». اختيار بلال عدشيت استند إلى تجربة عميقة له في المقاومة، فهو من أمهر رماة الصواريخ الموجهة والقذائف وأدقّهم. قبل التحرير في عام 2000، أوكلت إليه في عملية «العزّية» مهمة إدخال صاروخ موجّه من «طلاقة» دشمة الحرس. يومها، انتشرت بكثرة صورة الجندي الإسرائيلي المقتول داخلها، من دون أن يعرف أحد صاحب هذه الرمية.
هنا بلال عدشيت مرة أخرى. في عملية الأسر، أوكل إليه استهداف المركبة الأولى ــــ التي سيُخرَج منها الأسرى ــــ بشكل نقطوي ومحدد، ليجري إعطابها، وبالتالي توقفها عن العمل من دون أن تنفجر. وصلت الدورية إلى نقطة المكمن. رفع الحاج قاسم سريعاً سماعة الهاتف، إذ لم يكن لدى المجاهدين المتمركزين في نقطة خلة وردة، في خراج بلدة عيتا الشعب، أي استخدام لأيّ جهاز لا سلكي، بل أُوصِلَت هواتف الشبكة الداخلية على كل نقطة من النقاط التي توزعت عليها المجموعات العسكرية. جاء صوته حازماً: «انقضّوا على الدورية».
بنداء «يا رسول الله»
وجه بلال سلاحه بدقة إلى الزاوية التي من المتوقع أن تخفف المركبة سيرها لحظة وصولها إليها. انتظرها، وفي الساعة 9.01 تماماً، أطلق القذيفة بنداء «يا رسول الله»، معلناً بدء عملية «الوعد الصادق». أصاب الهامر مباشرةً، ثم لحقه مجاهد آخر برميها بثلاث قذائف «بـ 7»، محققَين إصابات موضعية أدت إلى إيقاف الهامر، حسب الخطة المقررة.
عملت الرشاشات الثقيلة من الفرقة الموكل إليها التأمين القريب بقيادة بلال خير الدين (أبو جعفر/استشهد في القريتين في سوريا) على تكثيف النيران باتجاه مركبة الهامر الخلفية، كذلك أصابت القذائف المضادة للدبابات هذه المركبة إصابة قاتلة ودقيقة. قتل سائقها سريعاً، قفز جنديان محاولين الهرب، فرُميا بالرشاشات، ليسقطا أرضاً.
الشهيد بلال خير الدين
عندها، أوعز الحاج قاسم إلى مجموعة الهندسة بتفجير السلك التقني وفتح الثغرة بعبوة خاصة ليعبروا منها إلى الأراضي المحتلة. هنا، جاء دور قوة الانقضاض. تقدم الشهيد حمزة حيدر (أبو مصطفى/استشهد في حمص 2014)، وستة من رفاقه المجاهدين، وانطلقوا باتجاه الهامر الأول وسط تأمين ناري كثيف. تقدموا بسرعة في الوقت الذي حاول فيه جنديان إسرائيليان الهرب باتجاه الشجيرات القريبة، لكن الشهيد عباس كوراني (هشام/استشهد اثناء تأديته واجبه الجهادي) ـــــ المناطة به مهمة القنص ــــ سرعان ما رماهما. أصاب الاثنين، فأردى الأول قتيلاً، وجرح الثاني الذي استطاع سحب نفسه مبتعداً عن موقع العملية.
«الأمانة صارت عنا»
وصلت مجموعة الانقضاض إلى الهامر الأول الذي كان قد بقي فيه الجنديان إيهود غولد فاسر وإلداد ريغيف. سحبهما المجاهدون. حملوهما من أكتافهما من جهة، ومن أقدامهما من جهة أخرى. ركضوا بهما نحو السياج، وبقي مجاهد أخير، وضع عبوة داخل الهامر، ثم فجرها بصاعق زمني لمسح أي دليل قد يساعد العدو في كشف ما حصل أو معرفة مصير الأسرى.
جرى الانسحاب سريعاً. توجه المقاومون نحو السياج، وخرجوا باتجاه السيارة التي تنتظرهم. في غضون دقائق، اختفوا من الوجود تماماً. حصل كل ذلك تحت إسناد قوات الانقضاض بقيادة محمد عسيلي (ذو الفقار. استشهد في معركة مارون الراس في تموز 2006).
الساعة 9.06، رفع الحاج قاسم السماعة مرةً أخرى. هذه المرة اتصل بغرفة القيادة: «بلغ صاحبنا، الأمانة صارت عنا». أُبلغ الأمين العام السيد حسن نصر الله أن العملية جرت بنجاح، دون وقوع شهداء أو جرحى للمقاومة؛ وعن الأسرى: «جنديان غائبان عن الوعي».
انتقلت غرفة العمليات المركزية للمقاومة إلى غرفة متابعة الحوادث الطارئة التي كانت مشخصة مسبقاً. استدعي المعنيون جميعاً، وقُسم العمل إلى ثلاثة أقسام: قسم لمتابعة العملية، قسم لمتابعة ردود فعل العدو، وقسم للاستنفار والجاهزية. ارتأى السيد نصر الله أن لا داعي لاستنفار علني لجميع الوحدات العسكرية، بل فقط للفريق المعني بالمتابعة.
الشهيد إبراهيم الحاج
في هذا الوقت، كانت قد هدأت النيران في منطقة خلة وردة على أرض العملية. لكن العمليات تواصلت؛ فتحت مجموعة إسناد القوات المتقدمة النيران على امتداد عرض خط الحدود، بقذائف الهاون وقذائف المدفعية لإلهاء العدو بالنيران.
وفي محيط موقع راميا المشرف على الخلة، كان إبراهيم الحاج (أبو محمد سلمان/ استُشهد في العراق) يؤمّن من بعيد عملية الأسر، لمنع أي قوة مساندة للعدو من التقدم إلى هناك، وتعطيل أي مجموعة إسرائيلية تسعى إلى الالتحاق بالجنود وقطع طريق الإمداد عليها.
برج الدبابة يتهاوى
في الجهة المقابلة، كان مسؤول السرية الإسرائيلية قد رفع تقريراً إلى قيادة الكتيبة أنه سمع نداء «تعرضنا لهجوم» من الجندي الذي هرب. عبثاً حاولوا إيجاد اتصال بالدورية.
الساعة 9.27، أي بعد 26 دقيقة، بعث قائد الكتيبة ببلاغ «هنيبعل» إلى قيادة الفرقة لإطلاق وابلٍ من الرصاص الكثيف في محيط المنطقة ودائرتها، التي يشتبه في أنه فيها جرت عملية الأسر، ومنع القوة المعادية من التحرك بعيداً عن منطقة الاشتباك، والتمكن من إخفاء الأسرى وتأمينهم. أخذ الإسرائيلي قرار الدخول والسعي وراء الخاطفين في منطقة عيتا الشعب.
أرسل دبابة إلى موقع «قبة العلم»، تحركت الدبابة على مسار جانبي خوفاً من المرور فوق ألغام يمكن أن تكون قد زرعتها المقاومة في مكان العملية.
احتاط الإسرائيليون، لكن قيادة المقاومة حسبت هذه الخطوات بحذافيرها. وضع المقاومون عبوة في المكان الذي افترضوا فيه أنه إذا قرر الإسرائيلي ملاحقتهم، فسوف يمرّ بمسار مختلف. بناءً عليه، كانت مجموعات من المقاومة قد زرعت، بالتخفي، عبوةً تحت أعين الكاميرات الإسرائيلية. تقدير مسبق تبين نجاحه سريعاً
الساعة 11:00، كانت غرفة قيادة الأركان في تل أبيب تضج بحضور وزير الدفاع عمير بيرتس ورئيس الوزراء إيهود أولمرت، وقادة الأذرع العسكرية، لمتابعة مجريات تطور العملية في بثّ مباشر على الشاشات أمامهم.
انطلقت دبابة ميركافا 4 إلى داخل الحدود اللبنانية، في طريقها نحو هضبة تُشرف على طريق يُحتمل حسب تقديرهم أن يستخدمه مقاتلو «حزب الله» للانسحاب. تقدمت 5 أمتار، وانفجرت بها عبوة ناسفة.
تهاوى جبروت المدرعات الإسرائيلي، حين ارتفع برج الدبابة في الهواء وغرق جسمها في الأرض، على مرأى من قادة الكيان. وفي الوقت الذي كان الإسرائيلي لا يزال تحت تأثير صدمة الميركافا 4، كانت المقاومة قد أخلت الأسرى بنقلهم من موقع إلى آخر. الأسيران كانا بوضع ميؤوس منه، ولم تفلح محاولات مجاهدي الإسعاف الحربي في إعادة الحياة إليهما.
8 قتلى وأسيران و4 بنادق، كانت تلك الحصيلة التي أقرّ بها العدو نتيجةً لعملية «الوعد الصادق». عملية لم تتجاوز مدتها 6 دقائق. 6 دقائق غيّرت مسار منطقة، لا بل أسقطت مخطط «الشرق الأوسط الجديد».
-
الشهيد عباس كوراني