يحلو للسياسيين المُقرّبين من السعودية التأكيد دائماً أنّها تمتنع، منذ 4 تشرين الثاني 2017، عن التدخل في الشأن اللبناني. الأدق، كان يستدعي أن يوضح هؤلاء أنّ الدبلوماسية السعودية في بيروت سلّمت مهمة التعبير عن مواقفها إلى «أصدقائها» المحليين
تحوّل الدبلوماسية السعودية في بيروت إلى «بعثة ترفيه»، من خلال «فنجان القهوة» أو جولةٍ دراجات «الهارلي» النارية، لا يعني أنّ السعودية نفضت يديها من التدخّل السياسي في البلد. هو مُجرّد قناعٍ حتّى توحي للرأي العام أنّها «دبلوماسية ناعمة»، وما «الحملات» التي تُساق ضدّها إلا «افتراء»، وبالتالي تنجح في «استعطاف» أصحاب القلوب الرقيقة. أما مهمّة مهاجمة الرئيس ميشال عون، ورئيس الحكومة المُكلّف سعد الحريري، وتسوية الـ2016 الرئاسية، فقد سلّمها الوزير المفوض وليد البخاري إلى سياسيين من فريق 14 آذار، يبدو أنّهم تحولوا إلى ناطقين بما لا يقوى عليه رأس الدبلوماسية السعودية في بيروت، ومُعبِّرين عن مواقف الرياض الحقيقية من الشأن اللبناني. يكفي أن يدلي هؤلاء بمواقفهم على وسائل التواصل الاجتماعي، حتّى يُسارع الدبلوماسي النشيط «افتراضياً» إلى وضع علامة «إعجاب» للمنشور.
بعد استدعاء الزميل حسين مرتضى بتهمة تهديد البخاري، غرّد النائب السابق فارس سعيد على «تويتر»، قائلاً إنّ «وضع حدّ لشتيمة السعودية في لبنان يتمّ عبر استدعاء سياسي للمسؤولين عن حزب الله و إبلاغهم الخروج من التسوية إذا استمر الهجوم. استدعاء الصغار لا يفيد». التغريدة نالت إعجاب «دبلوماسي الهارلي»، وتكرّر الأمر مع منشورات أخرى لعضو الأمانة العامة سابقاً في 14 آذار نوفل ضوّ، وصحافيين آخرين يدورون في الفلك السياسي نفسه. وجدت السعودية في بعض السياسيين المحليين «أداة خلاصٍ» لها: يتكلّمون لغتها، ويُنفّذون أجندتها، من دون أن تجد هي حاجةً إلى رفع صوتها. تماماً كما يحصل في ملف تشكيل الحكومة. ففي العلن، تتمسّك الرياض بـ«احترام القرارات اللبنانية»، أما في الباطن، فتتشدّد في أن ينال حليفاها سمير جعجع ووليد جنبلاط الحصّة التي ترضيهما، وإلا فالسعودية لن تسمح لسعد الحريري بإعلان الحكومة، «وفقاً لشروط ميشال عون وحزب الله».
صحيحٌ أنّ البخاري «مُدمنٌ» على «تويتر»، ولكن تأييده لتغريدات سياسية تضعه في مواجهة ثنائي عون ــــــ الحريري، مؤشر إلى موقفه الحقيقي المُعارض للتسوية الرئاسية. لا يقتصر الأمر على ذلك، بل إنّ الدبلوماسي السعودي يُنفّذ سياسة ضغط على أركان الدولة اللبنانية ويُهوّل عليهم بأنّه إما أن يضعوا حدّاً للمغردين والصحافيين، ويكمّوا أفواه كلّ رأي معارض أو منتقد للرياض، وإلا فإنّ الأخيرة ستُطيح التسوية وترمي بالبلد في المجهول. ويقول أحد أبرز هؤلاء السياسيين إنّ «التسوية كانت قائمة على معادلة انتخاب رئيس جمهورية ووضع قانون انتخابات بشروط حزب الله، مقابل تحييد لبنان عن المسائل الخلافية وتطبيق النأي بالنفس. ولكن مع الكشف عن اتصال عون بـ(الرئيس بشار) الأسد، واستقبال السيد حسن نصرالله لوفد من أنصار الله، انهارت التسوية». السؤال الذي يطرحه السياسي نفسه: «ما البديل من التسوية القديمة؟ هل بإنتاج تسوية جديدة؟ أم إطاحة اتفاق الطائف وتغيير النظام؟ أم عودة العنف والاغتيالات؟».
فوّضت السعودية نفسها حقّ الإملاء على لبنان موقعه ومواقفه السياسية. لا تنظر إليه بوصفه «بلداً عربياً شقيقاً»، بل تريد من دولته أن تكون تابعة لها، مُنفّذة لأجندتها، ومؤيدة لمواقفها المعارضة للقضية الفلسطينية وجرائمها في اليمن. وإذا مانع لبنان ذلك، فإنّ السعودية لا تتهاون في استعمال كلّ الوسائل لـ«معاقبته»، بدءاً من تعطيل صفقة تسليح الجيش، مروراً بالتضييق على اللبنانيين في الدول الخليجية، وصولاً إلى إجبار الحريري على تقديم استقالته. على الرغم من ذلك، يُصرّ المؤيدون لها في لبنان على أنّ السعودية «منذ أن انتهت الانتخابات النيابية، تتعرّض لهجوم ممنهج، وتُتَّهم بالتعطيل». ينبري هؤلاء للدفاع عن السعودية وتلميع صورتها، في وقت بات فيه حتّى «المجتمع الدولي» يجد نفسه «مُحرجاً» من القفز فوق إجرام قوات التحالف في اليمن، أو الاعتقالات لناشطات داخل السعودية يواجهن اليوم الحكم بالإعدام. جماعة «أحُبّ الحياة» في بيروت، يُصرّون على أنّهم «مع المملكة، لأنّها لا تزال تدعم منطق الدولة، ولم تُسلّح طائفة بوجه طائفة أخرى». أما ما يحصل في الداخل السعودي أو مجازر اليمن، «فلا مصلحة لنا في رؤيته»!