في المشكلات الطارئة وحالات التعدي على الملك العام، مثلاً، يتم اللجوء الى القوى الأمنية. إذ أن «أولاد الدولة» هم الأَوْلى بالدفاع عن أملاكها التي تتآكل حتى تكاد تختفي. «أولاد الدولة» هم الأمل الأخير بفرض النظام لحماية مساحاتنا العامة، على قلتها، في مدينة تختنق بعشوائياتها... لكن، في مشهد سوريالي، ينضمّ هؤلاء الى الجهة التي تتعدى على الملك العام ويقضمون مساحات اضافية منه! وتبلغ العبثية أقصاها عندما تصبح القوى الأمنية المكلفة حماية الملك العام مطالبة بكفّ يدها وجرّافاتها وآلياتها عن هذه الأملاك!
نهاية الأسبوع الماضي، استفاق سكّان المباني المحيطة بحرش بيروت على صوت جرف أشجار صنوبر ومعها مساحة اضافية من العقار الرقم 1925، اي الحرش، من جهة الطيونة، حيث شُيّد قبل سنوات مبنى لسرية السير التابعة لقوى الأمن الداخلي على العقار نفسه! لم يقتصر الأمر على أشجار الصنوبر. بسرعة هائلة بدأت أعمال الحفر من دون أن يعرف أحد ما الذي يدور. بلدية بيروت عقدت، في السابع من الشهر الجاري، جلسة تطرقت فيها الى أعمال الحفر التي تجري في جزء من العقار 1925 من منطقة المزرعة العقارية المحاذي لمستديرة الطيونة. و«شجبت القطع العشوائي للأشجار وأثنت على قرار المحافظ زياد شبيب بوقف الأعمال فوراً طالبة منه إتخاذ إجراءات صارمة». وكلّف المجلس «اللجنة القانونية دراسة كل القرارات الصادرة عن المجالس السابقة والتأكد منها لتحديد المسؤوليات».
رغم مرور ثلاثة أيام على قرار المحافظ، كما ذكرت البلدية في بيانها، كانت الأعمال لا تزال مستمرة على قدم وساق صباح أمس، وباتت الحفرة بعمق نحو 4 أمتار. «الأخبار» تواصلت مع شبيب الذي قال إنه خارج لبنان، وأوضح أن «المديرية العامة للأمن العام تقوم بهذه الأشغال لإنشاء مركز لها»، وأكّد أن «الأشغال توقفت لايجاد مقرّ بديل». لكن، الجرافات كانت لا تزال تعمل صباح اليوم (أمس)؟ أجاب شبيب: «اليوم أبلغت الجهة التي تقوم بالتنفيذ بالتوقف عن العمل». ولدى سؤال المحافظ عن طبيعة الأشغال وعما اذا كان القائمون بالأعمال حازوا رخصة منه بذلك، أجاب أن «الأمن العام هو الجهة التي يمكنها الاجابة عن هذه الأسئلة»، لافتاً إلى أنه لم يعط أي رخصة في هذا الشأن.
في المقابل، أكّدت مصادر وزارة الداخلية والامن العام لـ«الأخبار» أن اي كتاب لم يصل من المحافظ الى الداخلية أو الى المديرية العامة للأمن العام تطلب وقف الأشغال. ولفتت الى أن بناء المراكز الأمنية والعسكرية لا يتطلّب الحصول على رخصة. واستغربت «الضجة» حول الأمر، إذ أن مبنى سرية السير شُيّد على العقار نفسه منذ أكثر من عقد، كما أن هناك طريقاً واسعاً يفصل بين الحرش وموقع الأشغال. وقالت المصادر إن العقار كان موضوعاً بتصرّف الامن الداخلي، فأنشئت لجنة مشتركة بين المديريتين الامنيتين لتمكين الامن العام من إنجاز مبنى فوق هذا العقار. وكانت وزارة الداخلية مطلعة على ما يجري ومسهّلة له. وقالت المصادر إن الحاجة الماسة لإقامة مبنى امني على أرض تملكه الدولة حتّم اللجوء إلى قطع عدد من الأشجار سيُعاد زرع عدد مماثل لها في محيط المبنى بعد إنجازه.
إلا أن خبراء في التصنيف العقاري أكّدوا أن الأشغال يجب أن تحوز على إذن من الجهة المالكة، أي بلدية بيروت، وأن تشييد مبنى سرية السير على العقار نفسه لا يعطي القوى الأمنية حقاً مكتسباً في تشييد مزيد من الأبنية من دون مثل هذا الإذن.
هل كانت بلدية بيروت تضرب بالرمل عندما أثنت على قرار المحافظ قبل ثلاثة أيام من صدوره، في عملية تبادل للأدوار شهدنا فصولاً مماثلة لها في كل قضايا التعدي على الملك العام لـ«تضييع الطاسة»، أم أنها أرادت رفع الصوت لأن المبنى، بحسب معلومات «الأخبار»، سيخصص لدائرة أمن عام الضاحية، فيما صمتت لسنوات على إقامة مبنى سير بيروت على العقار نفسه؟
والعقار 1925، أي حرش بيروت، لا يشمل فقط ذلك المثلث الحالي المزروع والمسيّج بسور من حديد. إذ أن مساحة هذا العقار المصنف موقعاً طبيعياً كانت مليون و200 ألف متر مربع، قبل أن تكرّ سبحة التعديات «الرسمية» و«الدينية» عليه: سباق الخيل، جامع الخاشقجي، مجمع الإمام شمس الدين، المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى، مدافن «الشهداء» و«الشهيدين»، سرية السير... لتتقلص مساحته اليوم الى 300 ألف متر مربع فقط. وهو مهدد بمزيد من القضم مع سماح البلدية والمحافظ ووزير الداخلية نهاد المشنوق ببناء مستشفى ميداني مصري داخل الحرش، رغم رفض ثلاثة وزراء صحة متعاقبين ووزارة الدفاع ووزارة البيئة. وقد رفض المانحون المصريون طلب وزارة الدفاع وضع المستشفى في عهدة الجيش، مصرّين على أن تبقى ادارته في عهدتهم!
جمعية «نحن» دعت الى مؤتمر صحافي صباح اليوم قرب موقع الأعمال في الطيونة. وقال رئيس الجمعية محمد أيوب لـ«الأخبار» إن العقار رقم 1925 «مصنف ضمن المنطقة التاسعة التي يمنع البناء فيها بحسب القانون رقم 1939 وقد اعتبرته وزارة الاقتصاد الوطني موقعا طبيعيا فبات كمحمية. وهو منشأة لاستخدام العموم بحسب الاتفاقية المعقودة بين بلدية بيروت وايل دو فرانس. لذلك ممنوع ضرب مسمار فيه ويجب أن يبقى مفتوحا للعموم. والأنكى أن وزارة البيئة، الوصية على الحرش، لا علم لها بما يجري ولم يستشرها أحد». وحمّل مسؤولية ما يجري الى محافظ بيروت والبلدية والقوى الأمنية، وقال إن الجمعية في صدد رفع دعوى قضائية.
أستاذة التخطيط المدني في الجامعة الأميركية عضو «بيروت مدينتي» منى فياض لفتت الى أنه «سبق أن اجتمعنا مع المحافظ بشأن حرش بيروت وهو جزء من المخطط الأخضر الذي يفترض أن يحمي المساحات الخضراء. طالبنا يومها بحماية رئة بيروت أي الحرش وعدم تجزئته ووضعه ضمن خطة متكاملة، ورأينا تجاوبا من المحافظ الذي يصدف أنه يعلق نسخة عن المخطط الأخضر فوق مكتبه. الا أننا لم نر أمراً ملموسا سوى ابتسامته، فيما الواقع أن من وضع المخطط ينسفه ونفاجأ بكل طرف يرمي المسؤولية على الآخر». وأكدت فياض أن المحافظ «هو المسؤول العام ولا يمكنه تبرئة نفسه، بل يفترض به أن يقوم بأكثر من اصدار بيان وطلب وقف الأعمال»، سائلة عما «يمنعه من عقد مؤتمر صحافي وقول رأيه على العلن، هو وبلدية بيروت، بدل التلطي وراء البيانات؟».