تدرك تل أبيب أنّ هامش المناورة الذي أعطي لها في الساحة السورية تقلّص بعد سقوط طائرة «إيل» الروسية ومقتل من عليها. على هذه الخلفية، تخوض مع الجانب الروسي معركة الحد من هذا التقليص، إلى ما أمكنها ذلك، على رغم صعوبة المهمة. تتمسّك إسرائيل في هذه المعركة برواية تهدف إلى إبعاد حادث الإسقاط عن سببه المباشر، لتتحدث عن حربها ضد أعدائها وإمكان تحميلهم المسؤولية، وإن كانت روسيا ألمحت إلى أنها معنية بأن لا يتكرر الحادث بشكل مطلق، مع أو من دون مسؤولية إسرائيل الكاملة أو الناقصة.
تمسّكت تل أبيب من اللحظة الأولى بموقف رافض لتحمّل المسؤولية ودفعتها إلى سوريا وإيران وحزب الله. في ذلك أيضاً، استغلت التمايز وانتفاء القصد المسبق، قياساً بما حدث مع إسقاط تركيا لطائرة «سوخوي» الروسية عام 2015، لتبني على ذلك «مرافعة الدفاع» في مواجهة الروس. على هذه الخلفية أيضاً، خفّضت إسرائيل الرسمية مستوى التعليق وإمكان انفلاشه نحو تصريحات تراكم على الأزمة وتزيد موقفها تأزماً. في ذلك، ابتعدت تصريحات تل أبيب عن الحدية والتبجح مع تخفيف لهجة وشكل إطلاق التهديدات ضد أعدائها، وإن عمدت إلى محاولة التأكيد على خطوطها الحمر في سوريا من دون التعرض بطبيعة الحال إلى استفزاز الجانب الروسي وإن تلميحاً.
تجاه إسقاط الطائرة، عمدت إسرائيل إلى محاولة الاكتفاء بعبارات الأسف ودفع الحادثة وأسبابها إلى المستويات العسكرية بين الجانبين لحلها ضمن آليات منع الاحتكاك مع التطلع للاكتفاء بتعزيز إجراءاتها. في ذلك أنهت تحقيقها خلال ساعات مع التشديد على «براءتها»، ونقلته عبر قائد سلاح الجو إلى موسكو حيث تبيّن له أن هذه المقاربة مرفوضة روسياً.
في الجانب الروسي، كان واضحاً من اللحظة الأولى تمايز، من دون أن يعني الخلاف، بين المستوى العسكري (وزارة الدفاع)، الذي حمّل إسرائيل المسؤولية بل وشدد على حق الرد، وبين المستوى السياسي (الرئيس فلاديمير بوتين) الذي عمد إلى «تنفيس» بيان وزارته، ملمحاً إلى مسؤولية الجميع كجهات ومجريات ميدانية وترابطها ظرفياً، وإن أكد في المقابل، على إجراءات حمائية مستقبلية تحول دون تكرار الحادث.
بالطبع منطلقات الموقف العسكري تختلف عن منطلقات الموقف السياسي، وإن كانا يردفان بعضهما بعضاً لكن في نهاية المطاف المستوى السياسي في موسكو هو صاحب القرار النهائي. كان واضحاً أن بوتين في ما يمكن وصفه بالتوضيح حول بيان وزارة الدفاع الأول أنه غير معني بالحديث عن رد أو تصعيد، وإن كان عملياً استغل البيان وحدّته في الموازاة، بأن أكد أنه جاء بالتنسيق معه.
من جهة بوتين، الذي تلقى خسارة كبيرة جداً، معني بشكل أول أن لا يتكرر الحادث، وهو ما ستكون نتيجته وخيمة وحرجة جداً إن في الداخل الروسي أو في الخارج، وقد تكون له تبعات أيضاً على المصالح والمكانة الروسية في الساحة السورية، وكذلك في ما ورائها. في الوقت نفسه، المصلحة الروسية تقتضي عدم مواجهة إسرائيل في هذه المرحلة، لكن أن لا يتكرر الحادث أيضاً. الخيارات في ذلك محدودة في دائرة ضيقة، أدناها حظر المقاربة الإسرائيلية العسكرية للساحة السورية، وإن عن بعد، وتحديداً عن دائرة حمائية جغرافية واسعة تتعلق بالوجود العسكري الروسي على كامل الجغرافيا السورية.
المعضلة، التي تعترض توافق الطرفين (وإن كان إسرائيل أكثر) أن الوجود العسكري الروسي لا يتعلق فقط بقاعدتي حميميم وطرطوس، بل بات متموضعاً على نطاق واسع جنباً إلى جنب مع مواقع ووجود الجيش السوري، وكذلك إلى جانب حلفاء دمشق.
في ذلك التباين يبدو واضحاً. من جهة إسرائيل تريد أن تبقي لديها هامش المناورة بلا تغيير، وإن كانت تدرك مسبقاً أن التغيير مقبل لا محالة، وبين الموقف الروسي الذي يريد التأكد، بشكل شبه مطلق، أن لا يتكرر التعرض لوجوده، مع أو من دون قصد، حتى وإن كان بالإمكان تقرير أسباب التعرض غير المقصود.
على هذا الأساس، يتركّز الكباش غير المعلن بين الجانبين الذي لم يصل كما يبدو إلى تسوية حياله. والمعضلة كما تتبدى من موجباتها وأسبابها، متعذرة على الحل. الواضح أن الجانب الروسي معني أن يعمل على تليين الموقف الإسرائيلي الذي ما زال يستغل إلى أقصى حد واقع لا مصلحة الروسي في التصادم معه، عبر الامتناع عن تنفيذ مطالبه الحمائية في سوريا.
بيان وزارة الدفاع الروسية الجديد وتحميل إسرائيل مسؤولية إسقاط الطائرة يدخل في هذا الإطار، وفيه تكمن معظم تفسيرات البيان وموجباته. البيان أحيا من جديد الكباش بعد تظهير إسرائيل تفاؤلاً كان موضع شكّ، مشيراً (البيان) إلى اللاتوافق حول الشروط المنشودة روسياً، والممتنعة عنها إسرائيلياً.
في توضيح الممانعة الإسرائيلية والثبات الروسي المقابل، يشار إلى الآتي:
المعركة التي تخوضها تل أبيب للحؤول دون تقليص هامش المناورة العسكرية لديها ترتبط وتنطلق من نتائجها الوخيمة مع أعدائها في سوريا. في ذلك، المعركة الإسرائيلية وإن كانت مع الصديق الروسي، لكنها في جوهرها وغاياتها، معركة مع الأعداء وتهديداتهم وتجاه إبقاء أو فقدان أداة مواجهتهم.
في ذلك، تدرك تل أبيب أن أي تقليص في هامش المناورة في سوريا يعني تقليصاً في القدرة على مواجهة الأعداء فيها، وإمكان تعاظم تهديدهم أكثر وبما يفوق قدراتها على المواجهة اللاحقة أو يجعلها متعذرة في حدها الأدنى.
يعني ذلك أن المفاوضات الجارية مع الجانب الروسي ترتبط ارتباطاً مباشراً بأمنها الاستراتيجي أكثر من كونها خلافاً مع الصديق الروسي على هوامش مناورة في سوريا.
الحد الأدنى المتيقّن من بيان «الدفاع» الروسية هو الإشارة إلى اللاتوافق بين الجانبين. وهو بدوره يشير إلى معاندة متبادلة حول إرادة روسية ترفضها إسرائيل. وهذه المعركة تشتعل من وراء الأبواب المغلقة سياسياً، ومحورها متطلبات الأمن العسكري الروسي الذي يبتلع في إجراءاته الحمائية مصالح إسرائيل الأمنية وأدوات فرض هذه المصالح في سوريا.
أدركت تل أبيب، من لحظة سقوط الطائرة الروسية وبسببها، أن مرحلة ما قبل الإسقاط تختلف عمّا بعدها. وإن كان يتعذر تصوّر انفلات الكباش بين الجانبين إلى التصعيد، إلا أن النتيجة بين العناد الروسي والإسرائيلي ومما يتبدى من المعطيات (وإن كان من المبكر تقديرها بالكامل)، هي إعادة توليد تفاهمات جديدة تقي الروسي تكرار الحوادث، وإن كانت تفاهمات تقيّد الإسرائيلي وهامش مناورته، من دون أن تلغيها.