بدل أن يقلب الرئيس سعد الحريري صفحة التوتّرات الأمنية التي حصلت في لبنان خلال السنوات الماضية، ويشرع في مصالحة داخلية تحميه وتقوّيه في الداخل من الخارج، ومن البطش السعودي، أصرّ الحريري في الأيام الماضية على تذكير اللبنانيين بماضي تيار المستقبل، مستغلاً بكيدية تسليم شاكر البرجاوي نفسه لتوقيفه
حصل، في أيار 2012، عصر عميد حمود ومحمود الجمل، مسؤولَي ميليشيات تيار المستقبل، أن هوجم مكتب شاكر البرجاوي في ساحة أبو شاكر في الطريق الجديدة. سقط مرافقان لرئيس التيار العربي ونجا هو من القتل وأُحرق مكتبه، ولم يتم توقيف أحد من مئات المسلّحين، بينهم سوريون وفلسطينيون سلفيون، شنّوا «الغزوة» على «أبو بكر». وحصل في آذار 2014، عصر أبو مالك التلّة، أن ذات الصنف من المسلحين، هاجموا مكتب البرجاوي في الحي الغربي هذه المرّة، وأوقعوا جرحى وقتيلاً بمعركة دامية امتدت لساعات. وصفت ثلاثة أجهزة أمنية المهاجمين بـ«مسلحين من التيار السلفي».
قبل ذلك بأشهر، حوصر الشيخ محمد رشيد قباني، مفتي الجمهورية اللبنانية شخصياً، من قبل ذات العصابات. فلا عجب.
حمل تيار «الاعتدال» لسنوات راية الجماعات السلفية التفكيرية، ومسلّحي الزواريب، عصا فوق رقاب اللبنانيين في ضوضاء وهم «الثورة السورية»، وقبلها. لكنّ أخطر ما فعله الرئيس سعد الحريري وميليشياوييه، تنكيلهم بالمعارضين واستخدام السّلاح والتهجير ضد كل من تسوّل له نفسه، أن يرفض الانصياع للهيمنة في «الشارع السّني». من العائلات في طرابلس وعكار، إلى جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية والحزب السوري القومي الاجتماعي، إلى البرجاوي وآخرين في بيروت، على خط الساحل الجنوبي، في إقليم الخروب وصيدا.
قبلها في 7 أيار 2008، جلب الحريري ومحيطون به، هزيمة عسكرية لتيار المستقبل، وسقوطاً أخلاقياً ووطنياً في مجزرة حلبا، وما تلاها بتهريب الجناة وحمايتهم من العدالة. ومرتكبو مجزرة حلبا، مزيج بين سلفيين ومستقبليين، ومن إرهابيين هاربين من مخيّم نهر البارد حماهم خالد الضاهر بالنيابة عن الحريري والسعودية. وهم ذاتهم، «داعش» الأولى في شمال لبنان ولاحقاً في القصير وحمص.
أمس، في عصر أحمد الحريري، وجدت جريدة «المستقبل» عنواناً للمانشيت. جزء لنشر كذبة «امتثال» رئيس تحرير «الأخبار» إبراهيم الأمين للمحكمة الدولية، وصدر الصفحة الأولى لتوقيف البرجاوي ليومين في المحكمة العسكرية. انتصار دونكيشوتي لتيار المستقبل، بالاستقواء على ابن الطريق الجديدة الذي رفض أن يكون جزءاً من حملة السعار المذهبي ضد حزب الله، لكن بعد أن سلّم نفسه أول من أمس في مسار قضائي طبيعي، بموجب مذكّرة توقيف صادرة عام 2014، حين ضرب الحريري البرجاوي وبكى ثم سبقه واشتكى.
قبل الانتخابات النيابية، احتاج الحريري أيضاً انتصاراً هلامياً آخر لشّد عصبه الانتخابي. صدر عن المحكمة العسكرية حكم غيابي بحبس البرجاوي لمدّة سنة في شباط من العام الماضي بجنحة حمل السلاح وإطلاق النار، مسقطاً عنه التهم الجنائية. وكي لا يظهر القرار هزيمة للمستقبل، جرى فرض تمييز الحكم. واتخذت محكمة التمييز قراراً بقبول التمييز شكلاً وتعيين جلسة جديدة للمحاكمة. غير أن محامي البرجاوي معن الأسعد، وجّه رسالة لمحكمة التمييز مؤكّداً أن قبولها التمييز مخالف للقانون، ولا يحقّ لها التمييز بحكم غير نهائي، معترضاً أيضاً أمام المحكمة العسكرية على الحكم الغيابي بشقّه الجنحي. وهنا، عادت محكمة التمييز عن قرارها، معيدةً الملفّ إلى المحكمة العسكرية لبت الطّعن باعتراض الأسعد. وهو ما أكّده، أول من أمس، رئيس المحكمة العسكرية العميد حسين العبد الله، خلال جلسة محاكمة البرجاوي.
لم يترك المستقبليون في اليومين الماضيين، عبر أحمد الحريري، ضغوطاً إلا ومارسوها لاستغلال تسليم البرجاوي نفسه. فرصة، وقع فيه خصم تحت «رحمتهم»، فشنّوا حملة إعلامية على المحكمة العسكرية لترهيبها وفتح ملفّ منتهٍ للبرجاوي، مع محاضرات بالأخلاق والعدالة. ولكي يشفى «الغليل»، تذرّع ممثل النيابة العامة العسكرية، القاضي هاني الحجّار بحاجته إلى قراءة الملفّ ليومين، بعد محاولاته إعادة البحث في القضية إلى التهم الجنائية، كي ينام البرجاوي ولو لليلة واحدة في السجن.
ألغت الأحزاب تجمّعها اليوم خوفاً من الصدام مع المستقبل وتطيير جلسة المحاكمة
شاكر البرجاوي ليس ملاكاً، لكن يكفي أنه في يومٍ من الأيام قاتل إسرائيل وحمل السلاح وأصيب في معركة إسقاط 17 أيار، ولم يقبل أن يحمل السلاح ضد المقاومة، ولم ينقضّ على سوريا في لحظة ضعفها. «قبضاي» منطقة تحوّل إلى رمز في مرحلة بيروت قبل سوليدير الحريري.
اليوم تعقد المحكمة العسكرية جلسةً لاستكمال المرافعات. وبعد أن تقرّر في اجتماع لممثلي الأحزاب الوطنية التجمع الرمزي أمام المحكمة لرفض «التدخل في القضاء» والدفاع عن البرجاوي، جرى إلغاء التجمّع خوفاً من حشد المستقبل مناصريه والضغط لمنع انعقاد الجلسة.
أزمة العقل الجلف، الجاف، أنه لا يعرف المسامحة، ولو كان معتدياً. وأزمة الحريري، الرئيس، أنه لم يعرف كيف يبني جسور المصالحة الوطنية المتينة، لا مع سوريا التي زارها بعد اغتيال والده، ثمّ وظّف بعض تابعيه لتخريبها، ولا مع أحد من القوى السياسية اللبنانية الأخرى، ولا مع الآخرين في طائفته. واليوم، يصرّ على حرمان النواب السنّة غير الموالين له من التمثيل في الحكومة بعقلية إلغاء «الأقربين» والرضوخ لـ«الأبعدين». وله كل الجرأة ليستقوي على شاكر البرجاوي، في ملف من زمن مضى، وفي سجلّ محسوبين على تياره 11 شهيداً في حلبا من دون حساب.