إسرائيل في أزمة حقيقية هذه المرة! الموضوع لا يتصل بحسابات رياضية تقليدية، بل بكون العدو بدأ يلمس نتائج سنوات من المواجهة المتنوعة مع قوى المقاومة في المنطقة. هو عملياً بات يشعر بثقل فشل المعركة السياسية والعسكرية التي قامت في جواره، ولا سيما في سوريا، حيث كان يراهن على نتائج معكوسة لما هو حاصل اليوم. ببساطة، قبل سنوات، كانت إسرائيل تُراقب ما يجري من حولها على قاعدة:

ـــ انشغال رأس الحربة في جبهة الأعداء بملفات بعيدة عنها. إيران وحزب الله غارقان في الأزمات السورية والعراقية واليمنية.
ــ النظام السوري مهدّد بالسقوط، وليس أمامه سوى خيار العمل على حفظ رأسه داخلياً.
ــ قوى المقاومة الفلسطينية منقسمة بين فريق يراهن على الاستثمار السياسي لـ«الربيع العربي»، وقوى معطلة من الفعل المقاوم بسبب التوازنات داخل الساحة الفلسطينية.
ـــ تورّط روسي من النوع الذي أملت إسرائيل أن يكون عنصر ضمانة إضافية لأمنها الاستراتيجي في الشمال.
ـــ عودة مباشرة للجيش الأميركي وجيوش أوروبية وغربية إلى الدول المجاورة.
ما حصل خلال العامين الماضيين هو أن التبدل الجوهري في معركة سوريا أعاد خلط الأوراق؛ فإيران وحزب الله حوّلا التهديد الناجم عن أزمات سوريا والعراق إلى فرصة لتعزيز وجودهما وقدراتهما ونفوذهما في هاتين الدولتين، كما جعل الحكم في سوريا وقسماً كبيراً من الحكم في العراق، يلتصقان أكثر بمحور المقاومة باعتباره الطرف الوحيد الذي وقف إلى جانبهما.
أما روسيا، فقد بدأت بشيء عند إرسال جيشها إلى سوريا وهي تنتهي اليوم إلى شيء آخر. تتصرف موسكو اليوم على أنها تملك أوراق قوة كبيرة في وجه المحور الغربي. وما تقوم به خلال الأشهر القليلة الماضية تجاوز مرحلة التفاعل مع متطلبات الغرب وإسرائيل إلى مرحلة فرض معادلات جديدة. وما خيار الغطاء الجوي للساحة السورية إلا دليل على حجم هذا التحوّل بمعزل عن كل الإجراءات التي قامت على إثر استعادة الدولة السورية سيطرتها على مناطق الجنوب. كما أن روسيا لا يبدو أنها تقبل بعلاقة ندية مع إسرائيل في منطقتنا. هي لم تلمس أصلاً أي فائدة من وعود تل أبيب بمساعدتها في الولايات المتحدة. وهي لمست، أيضاً، قوة حلفاءها في معركة سوريا على نحو أكبر بكثير مما كان الغرب وإسرائيل وحلفاؤهم العرب يقدرون. وبالتالي، يمكن فهم المستوى الجديد من العلاقة بين روسيا وإسرائيل. هو مستوى يحتاج إلى مراقبة وتدقيق، خصوصاً مع قرار روسيا تولّي مهمة مركزية في برنامج إعادة اعمار سوريا، بما في ذلك المؤسسات العسكرية في الدولة.
على المستوى الفلسطيني، كان التحوّل الاستراتيجي في موقف حركة حماس إزاء العلاقة مع محور المقاومة أشبه بعنصر مباغتة للعدو. يبدو الجميع اليوم على اقتناع بأن «حماس» عادت فعلاً إلى «المحور». وان كل النقاش حول الهوامش الخاصة بتنظيم الإخوان المسلمين لا يتصل مباشرة بمشروع «حماس» التي قررت اعتماد سياسة النأي بالنفس عن الأزمات في العالم العربي، والاستعداد لتسوية أوضاعها مع الجميع، من مصر عبد الفتاح السياسي إلى سوريا بشار الأسد مروراً بكل الافرقاء. لكن الجديد الذي يقلق العدو هو عودة الحرارة القوية إلى علاقة الحركة مع إيران وحزب الله، بالتزامن مع انتعاش العلاقات بينها وبين بقية فصائل المقاومة في داخل فلسطين. وجاءت المواجهة الأخيرة لتكشف أن التنسيق على المستوى الميداني للفصائل متقدم بأشواط على التنسيق بين المستويات السياسية.
أضف إلى ذلك أن العدو خسر هذه الفترة أيضاً السلطة الفلسطينية التي تمّ إهمالها على خلفية «صفقة القرن»، ما جعل النقاش داخل مؤسسات السلطة يتخذ منحى التعامل السلبي مع العدو. وهو أمر كانت له انعكاساته على طريقة تصرّف السلطة مع المواجهة الأخيرة في غزة. يكفي أنها لم تكن طرفاً في الضغوط على القطاع، حتى يفهم العدو أنه خسر ورقة ما بمعزل عن قيمتها العملانية.
كل هذه الأجواء تجعل العدو يتصرف مع الأمر بطريقة مختلفة. جاء اختبار غزة الأخير ليكشف عن نقاط ضعف أكثر خطورة؛ فالجميع يعلم أن معادلة «الكلفة والجدوى» هي التي تحكمت في قرار تل أبيب وقف إطلاق النار في المواجهة الأخيرة. ومع أن رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو أسهب في الحديث عن أسباب أمنية وعسكرية حساسة لا يمكن إشراك الجمهور فيها، إلا أنه يمكن للمراقب أن يقرأ النص بوضوح: بمقدور المقاومة في غزة إيلام إسرائيل بأكثر مما يعتقد الجميع، وإن قصف تل أبيب بصواريخ فعالة كان على وشك الحصول لو تمادى العدو أكثر في قصف المراكز المدنية في القطاع، عدا عن الفضائح التي شهدها الوعي العام في إسرائيل جرّاء «عملية الكورنيت» واستعادة فيلم «عملية العلم»، ونوعية القصف الذي طاول عسقلان، والفشل الذي منيت به القبة الحديدية. إسرائيل تعلم هنا أن نتائج هذا لا تقتصر على المواجهة مع الفلسطينيين، بل يمكن لأي مسؤول أن يجري مقارنة بسيطة بين ما تملكه المقاومة في فلسطين وما تملكه المقاومة في لبنان وسوريا، حتى يفهم سبب القلق من الدخول في مواجهة غير محسوبة بدقة.
لذلك، فإن ما حصل على صعيد الأزمة السياسية كان مجرد إعلان رسمي عن أزمة قوية كانت ترافق عمل حكومة اليمين لشهور طويلة. وبالتالي، فإن خيار الانتخابات المبكرة قد يكون علاجاً للأزمة الحكومية، لكنه لن يقدم حلاً لمعضلة المواجهة مع المقاومة، حيث يبقى السؤال:
كيف سيتصرف العدو إزاء ارتفاع منسوب التهديد الوجودي له؟ وأي مغامرة سيلجأ إليها في سياق سعيه إلى وقف نمو قدرات أعدائه؟ ولائحة خياراته اليوم واضحة ومحسوبة، فإما مواجهة شاملة لها قصتها وإما العودة إلى منطق العمل الأمني الموضعي. وهو عمل يبدو أن قوى المقاومة جاهزة للتعامل معه سواء في فلسطين أو في سوريا ولبنان.


وهذا يعني ببساطة أن إسرائيل تمر في «فترة أمنية حساسة»، وأنها مقيّدة بخيارات ضيقة ومكلفة على جبهة غزة. وينبغي أن تعمل لاحقاً على اختراق هذا القيد وسيكون مكلفاً. كما أنها مقيدة في مواجهة لبنان، وتتردد في المبادرة، فلا هي قادرة على التسليم بتعاظم حزب الله، ولا هي قادرة على المبادرة، وينبغي أن نعي أن إسرائيل قد تفكّر لاحقاً في خطوة ما، ولكن الحسابات المنطقية تفرض الامتناع حتى الآن عن مغامرة بهذا الحجم. لكن الأكثر قلقاً هو البحث في تل أبيب عن احتمال جدي بأن تصبح مقيدة لاحقاً في الساحة السورية، حيث ارتفع منسوب القلق من تداعيات مواصلة اعتداءاتها في ضوء الموقف الروسي، ولا سيما بعد مفاجأة نتنياهو التي أقرّ بها قبل أيام، أن تل أبيب لم تقدّر بصورة صحيحة خلفية موقف الرئيس فلاديمير بوتين. فالعدو اعتبر أن الموقف الروسي هو غضب ما يلبث أن يخفت لاحقاً. لكن اللغة التي واصلت موسكو استخدامها في مواجهة إسرائيل، وآخرها بعد اللقاء الثانوي بين بوتين ونتنياهو في باريس، حين أكد بوتين مجدداً أنه لا يوجد أي موعد للقاء جديد مع نتنياهو في المدى المنظور، وهو ما يعني رسالة مباشرة بأن الموقف الروسي بعد مضي شهرين ما زال كما هو، ويعني ذلك أنه ممنوع على إسرائيل مواصلة اعتداءاتها كما كانت تجري على الساحة السورية.
إزاء كل ما سبق، من الواضح أن مسار الانتخابات المبكرة (وهو المرجّح) هو خيار تمّ فرضه على نتنياهو، وبذل ويبذل جهوده للحؤول دون استكماله. إسرائيل باتت أمام حكومة تتمايل يميناً وشمالاً، وباتت الاعتبارات الانتخابية والسياسية الحزبية أكثر حضوراً في القرارات الاستراتيجية. وهو ما ينبغي أن يرفع مستوى الحذر لدى الطرف الفلسطيني. وأيّاً كانت المسارات الداخلية، سيكون للموضوع الفلسطيني موقع الصدارة، وقد يدفع ذلك القيادة السياسية، على قاعدة التنافس، إلى رفع مستوى الاعتداءات ضد القطاع، في حال حصل أي احتكاك. وفي حالة تفكّك حكومة نتنياهو والتوجه نحو انتخابات مبكرة، لا يعني ذلك تقييداً في القرار السياسي والأمني، خاصة عندما يتعلق الأمر بالتهديدات على الجبهتين الشمالية والجنوبية.
التقدير المفترض أن إسرائيل تخشى من الغرق في الجبهة الجنوبية في معركة استنزاف طويلة، يُستهدف فيها عمق كيان العدو، فيما التهديد الأشد خطورة وتعقيداً يتنامى ويتطور على الجبهة الشمالية وفي الساحة السورية.
في ضوء حقيقة أن إسرائيل تنظر إلى الجبهة الشمالية على أنها الأشد تهديداً على الأمن القومي، من الطبيعي أن تكون أولوياتها مركزة على هذه الجبهة. ومع أن اسرائيل فشلت في الكثير من خياراتها ورهاناتها السابقة، لكنها بالتأكيد لن تختار البقاء مكتوفة الأيدي واعتماد خيار الدفاع فقط إزاءه.

المصدر: ابراهيم الأمين - الاخبار