من خلال قراءة سريعة لتصريحات المسؤولين الأتراك المتصلين بمؤسسة الرئاسة أو رؤساء بعض الأحزاب تعليقًا على زيارة مستشار الأمن القومي الأمريكي جون بولتون وجولة وزير الخارجية بومبيو في المنطقة، نجد أن هناك مؤشرات على عدم توافق يتم العمل على تجاوزه أو تحقيقه بثمن ما، ومن المعلوم أن إعلان ترامب المفاجئ الانسحاب من شمال سوريا قد تم تقييمه على أنه في صالح تركيا وضد مليشيات وحدات الحماية الكردية.

لكن ما حدث بعد ذلك خروج تصريحات متناقضة عن تأخير الانسحاب أو استهداف تركيا للأكراد كأقلية، حيث نقل عن بولتون وضعه لشروط على أي عملية تركية بضمان سلامة المقاتلين الأكراد، كما أن وزير الخارجية بومبيو هو الآخر دعا إلى عدم قتل تركيا للأكراد أو منع تركيا من أي عملية عسكرية قبل انسحاب كامل للقوات الأمريكية؛ وهو ما ألقى بظلال من التوتر على لقاءات المسؤولين الأتراك والأمريكيين، حتى إن بعض المصادر الإعلامية ذكرت أن الرئيس أردوغان رفض إعطاء موعد لجون بولتون ولم يلتق به واقتصر لقاؤه على الاجتماع بإبراهيم كالن لمدة ساعتين.

وكان محور تركيز التصريحات التركية أن تركيا لا تستهدف الأكراد وهناك فرق كبير بين الأكراد الذين قالت إنهم أخوة للشعب التركي ووحدات الحماية التابعة لحزب العمال الكردستاني.

ومن التصريحات التي أشرنا إليها تصريحات رئيس دائرة الاتصال في الرئاسة التركية فخر الدين آلتون الذي قال: "الأمن القومي التركي غير قابل للتفاوض"، مضيفًا "إظهار الأكراد السوريين والجماعات الإرهابية المدعومة من الولايات المتحدة وكأنهما شيء واحد؛ هو إهانة للشعب الكردي ولذكائنا"، وكذلك تصريح متحدث حزب العدالة والتنمية التركي الحاكم عمر جليك، بأن ملفات بلاده الأمنية لا تخضع لمساومات السياسة بأي شكل من الأشكال، وأن جيش بلاده قد يدخل فجأة إلى منطقة شرق الفرات، شمالي سوريا، في عملية يستعد لتنفيذها منذ أسابيع ضد منظمة "ي ب ك/بي كا كا" الإرهابية.

كما صرح إبراهيم كالن قائلاً: "الزعم بأن تركيا ستقتل الأكراد في حال دخولها (شرق الفرات) وأنهم سيتضررون، ليس سوى دعاية تطلقها منظمة بي كا كا"، وبشأن العملية العسكرية التركية المترقبة في شرق الفرات أضاف "سنقوم بالتنسيق مع الجميع إلا إننا لن نأخذ إذنًا من أحد"، وأيضًا
تصريحات زعيم حزب الحركة القومية التركي المعارض دولت باهتشلي، إنه يتعين على بلاده أن تدخل منطقة شرق الفرات بسوريا من أجل إحقاق الحق ونصرة المظلومين هناك دون الاكتراث لما تقوله الولايات المتحدة.

لكن كانت هناك تصريحات دبلوماسية بنبرة أكثر هدوءًا من إبراهيم كالن خلال مؤتمره الصحفي مع بولتون حيث قال إن أردوغان لم يعط موعدًا مسبقًا للقاء بولتون والحديث عن تأخير لا تعتبره تركيا تأخيرًا، فالوفد الأمريكي الذي ناقش معه تفاصيل الانسحاب أشار أنه يحتاج إلى 120 يومًا بعد أن كان قد ذكر أنه يحتاج في البداية من 60 إلى 120 يومًا، مؤكدًا أن تركيا لا تعتبر هذه الفترة تأخيرًا.

وتناقش تركيا مع واشنطن عدة ملفات وهي تطبيق اتفاق منبج، حيث تطالب تركيا بضرورة سحب عناصر وحدات الحماية من منبج بشكل كامل وتسليمها للعناصر المحلية وكيفية الانسحاب الأمريكي والحالة التي سيخلفها وراءه ومصير الأسلحة الثقيلة التي سلمت لوحدات الحماية ومصير القواعد العسكرية الأمريكية (16 قاعدة عسكرية أمريكية في سوريا)، كما يعتقد أيضًا أن ملف تنظيم غولن حاضر في المباحثات حيث قال كالن إنه سلم بولتون ملفين أحدهما عن جرائم وحدات الحماية ويعتقد أن الملف الآخر يتعلق بتنظيم غولن.

ومن خلال ما سبق يتضح أن هناك ما يبدو أنه تراجع أو تناقض أمريكي عما صرح به ترامب ونقل عنه في اتصال هاتفي مع أردوغان عندما أخبره أنه سينسحب من شمال سوريا وأن تركيا لا بد أن تقوم بمواجهة ما تبقى من تنظيم داعش في سوريا، فالحديث عن استمرار حماية وحدات حماية الشعب وعدم تحديد مصير الأسلحة والمطالبة بعدم بدء العملية التركية والجولات الأمريكية للتنسيق مع "إسرائيل" ودول الخليج، ينسجم مع ما صرح به زعيم الحركة القومية دولت بهتشلي بأن الولايات المتحدة تقوم بعملية إلهاء إستراتيجي لتركيا ولكن ثمة من يسأل هل كانت استقالة ماتيس وماكجرك ضمن هذه السياسة؟

لعل من المبكر الحديث عمن المستفيد من الانسحاب الأمريكي من سوريا، فتركيا ستكون في مواجهة مع اللاعبين الباقين وهم روسيا وإيران وحاليًّا دخلت دول الخليج من بوابة الدفاع عن عروبة سوريا، كما أن هذا السياق أيضًا يحتاج معرفة طبيعة وشكل الانسحاب الأمريكي وتوقيته والفراغ والشروط التي يريد الخروج وفقها إن كان القرار لا رجعة فيه، والأخطر في هذا السياق على العلاقات التركية الأمريكية أن جون بولتون يسعى لإعادة التفاوض على ملفات تم الحديث فيها بين مسؤولين أتراك وأمريكيين.

تظل السياسة الأمريكية في عهد ترامب توصف بعدم القدرة على التنبؤ بها، كما أن هناك ما يبدو أنه تناقض في مواقف شخصيات داخل الإدارة نفسها، ولكن السؤال الأهم: هل هذا التناقض حقيقي أم مقصود ضمن سياسة الإلهاء الإستراتيجي التي تحدث عنها بهتشلي؟ كما أن هناك أسئلة كثيرة عن إستراتيجية واشنطن الشاملة للمنطقة، فقبل أسابيع كان تيلرسون يتحدث عن قوة حدودية في شمال سوريا والآن يتم استبعاد هذه الفكرة، فهل تم تغيير ذلك فجأة أم يتم تقديم دعم شكلي لتركيا لوقف أو تأخير تقدمها نحو سوريا؟ هل كل هذه الزوبعة في نهاية عام وبداية عام جديد للتغطية على قضية جمال خاشقجي وهل تستحق القضية ذلك؟

توجد أسئلة كثيرة والقليل من الإجابات عن الموقف الأمريكي الذي ربما تحسمه تغريدة جديدة من ترامب، وكذلك أيضًا ما مدى الصبر من جهة تركيا حتى ساعة الصفر للعملية العسكرية شمال سوريا.

محمود سمير الرنتيسي

باحث في مركز سيتا للدراسات بأنقرة 

المصدر: نون بوست