بفضل تكنولوجيا الاتصالات المعاصرة، باتت المعلومات تنتقل أسرع من أي وقت مضى. حيث غيّر هذا التقدم الطريقة التي نتواصل بها مع بعضنا البعض، والكيفية التي نتبادل بها البضائع والخدمات، وحتى طريقة شنّ الحروب.

خذوا مثلاً أفعال الحكومة الروسية التي قامت بها منذ إطلاق هجومها غير السرّي تمامًا في أوكرانيا العام الماضي. على مدى الشهر الماضي، ظهرت العديد من القصص بشأن طريقة إدارة الكرملين لـ "حرب المعلومات"،  وفي مقالة لها في صحيفة ذي أتلانتيك، أوضحت الصحفية "جيل دوغيرتي" كيف صار الإعلام أحد أقوى أسلحة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. بالمثل، ناقش "بيتر بوميرانتسيف" في صحيفة الغارديان، كيف يتزايد تركيز الاستراتيجية العسكرية الروسية على الفوز، ليس في ميدان المعركة؛ بل في "ميدان الحرب النفسية".

وربما تكون الحرب النفسية مفهومًا حديثًا، لكن جذورها تمتد لآلاف السنين، وكما هو الحال مع الحرب التقليدية، فإن الابتكار والتطورات التكنولوجية تؤدي لظهور أنواع جديدة من العمليات النفسية، وغالبًا ما تسير العمليات العسكرية التقليدية والنفسية جنبًا إلى جنب.  

العربة العسكرية
بعد اختراعها منذ ما يزيد على خمسة آلاف سنة مضت كوسيلة نقل تجرّها الحيوانات، جرى استخدام العربة لأغراض عسكرية بعد مُضي عدّة قرون. في بادئ الأمر، كانت العربات الثقيلة تُستخدم لسحق مشاة العدو حتى ظهور عربات أخف وزنًا بعجلتين هدفها حمْل رُماة السهام.

ولا شك أن العربة أثبتت أهميتها بفضل استخدامها التكتيكي في ميدان المعركة، كما أنها كانت تمتلك ميزة إضافية متمثلة في كونها وسيلة للترهيب النفسي، أما بالمقاييس القديمة، كانت العربات، لا سيما النوع الأخف وزنًا، سريعة ورشيقة ومُعمّرة، فيما كانت تلك العربات تُصدر ضجيجًا وتثير الغبار وغيره، ولا بد أن مشهد العربات المندفعة في آن واحد في ساحة المعركة القديمة كان مخيفًا للعديد من الخصوم في العصر البرونزي.

المنجنيق
مثل العربة، كان المنجنيق سلاحًا قديمًا يتمتع بقيمة عملية وعسكرية ونفسية أيضًا، حيث صُمم لإضعاف تحصينات العدو أثناء الحصار، إذْ كان عمليات الحصار تستغرق زمنًا أطول قبل اختراع هذه الآلة الحربية. على سبيل المثال، استمر الحصار الإغريقي لمدينة طروادة في العام 1200 قبل الميلاد لعشر سنوات، وفقًا للأسطورة.

ومع تكيُّف التحصينات مع أسلحة الحصار، استغرقت الحملات ضد الدفاعات المحاطة بالأسوار وقتًا أطول، وبالإضافة إلى الضرر المادي الذي لحق بأسوار المدينة، ألحقت المجانيق أيضا ضررًا نفسيًا بشكان المدينة. وكما يُروى في كتابAncient) Machine Technology: From (Wheels to Forges، كانت المجانيق القديمة كبيرة، وبلغ بعضها ارتفاع أعمدة الهاتف في عصرنا الحديث. وكان بمقدورها إطلاق سهام طولها أربعة أمتار، أو قذف أحجار وزنها 78 كيلوغرام.

كان الجنود يقصفون المدن المحاصرة ليل نهار، حارمين سكانها من أي شعور بالراحة. كما أقدم الإغريق والرومان على قذف رؤوس الجنود القتلى إلى داخل تحصينات أعدائهم كوسيلة لإضعاف معنويات سكان المدينة.

يتضمّن كتاب "فن الحرب" لمؤلفه "صن تزو"، الذي يمكن القول إنه أشهر دليل إرشادي للحرب في التاريخ، 13 فصلاً يتناول فلسفة الحُكم والاستراتيجية العسكرية وتكتيكات ميدان المعركة، وتتناول معظم فصول الكتاب الجوانب العملية للحرب، مثل تحديد الفرص الاستراتيجية للهجوم، وإطلاق هجوم من أفضل التضاريس الأرضية، ويتضمّن الكتاب أيضًا توجيهات بشأن تحقيق تفوّق نفسي على الخصوم، كما يرد في هذا الاقتباس:
"جميع الأمور المتعلقة بالحرب تعتمد على الخداع. بالتالي، عندما نكون قادرين على الهجوم، يتعيّن علينا أن نبدو كما لو كنا عاجزين عنه، وعندما نناور ونتحرك بالقوات، يجب أن نبدو خاملين، وعندما نقترب، يجب أن نجعل عدونا يظن أننا بعيدون، وعندما نكون بعيدين، علينا أن نجعله يظن أننا قريبون".

استخدام الأفيال
إن ادّعاء "صن تزو" بأن الحرب تعتمد على الخداع، يجعل الجانب النفسي للمعركة يسمو فوق الجانب المادي لها، وقد  اشتهر "هانيبال باركا"، ذلك القائد القرطاجي الذي يُعد من بين أعظم الاستراتيجيين العسكريين في التاريخ، بعبوره جبال الألب في القرن الثالث قبل الميلاد، جالبًا مع جيوشه عددًا من الأفيال الحربية لترهيب خصومه الرومان.
 فكيف سيفكر جندي في مواجهة وحش حربي عملاق ذي أنياب مُندفع باتجاهه؟ً!

إن استخدام هانيبال للأفيال الحربية كان تكتيكًا جريئًا لكن ليس مُبتكرًا تمامًا، حيث بدأ تاريخ استخدام الأفيال الحربية قبل قرن من الزمان قبل دخول جيوش هانيبال لشبه الجزيرة الأيبيرية، حينها تواجهت قوات إسكندر الأكبر مع جيش "داريوس الثالث"، الذي كان يمتلك 15 فيلاً في خدمته، في معركة "غوغميلا"، واستعار الفرس تلك الفكرة من الجيوش الهندية في الشرق.

وبالرغم من انتصار الإسكندر الأكبر في المعركة، غير أن مشهد الأفيال أثار ذعره في البداية. وعقب انتصاره، ضمّ الإسكندر الأفيال الخمسة عشرة إلى صفوف جيوشه، ووسّع بالتدريج من حجم فيلق الأفيال بعد انتصاره في المزيد من المعارك مع الفرس.

وبالرغم من التأثير النفسي الذي امتلكته تلك الأفيال في ميدان المعركة، إلا أن هانيبال لم يستخدم هذه الحيوانات مطلقًا بفاعلية كما كان يُرجى منها في الأصل. لقد نفقت معظم أفيال هانيبال الحربية في جبال الألب، أما الأفيال التي بقيت على قيد الحياة فلم تكن ذات فعالية ضد جيش روماني استطاع استحداث دفاعات ضد تلك الوحوش الحربية.

الإخبار بمشاهد الرعب
لم يغزُ "جنكيز خان" أراضي أكثر من أي إنسان آخر في التاريخ عبر القوة المادية فقط؛ إذ استخدم تكتيكات نفسية كوسيلة لكسب أفضلية على خصومه. وقبيل غزوه لأرض جديدة، كان جنكيز يعرض على حكامها فرصة الاستسلام، بشرط أن يدفعوا له جزية، تكون غالبًا في شكل ذهب أو قوة بشرية، ولو خضعت الحكومة المنافسة لمطالب المغول، فإنها ستسلم من الهجوم، ولو رفضت المطالب، تذبح جيوش المغول كل فرد تقريبًا في الطرف المقابل، تاركة عددًا قليلاً من الأشخاص حتى يذهبوا ويخبروا المدن والبلدان المجاورة بما حدث لنشر الخوف.

كان جنكيز أيضًا يعرف كيف يقسّم خصومه، حيث كان جواسيس المغول يجمعون بنشاط معلومات بشأن منافس محتمل، بالإضافة إلى أي نقاط ضعف، ولو كان هناك توترات وسط مجموعات مختلفة، سعى جنكيز لاستغلالها. على سبيل المثال، لو كانت هناك انقسامات طبقية، كان جنكيز يعلن نفسه مُحررًا للفقراء. لكن بالنسبة للأغنياء، فقد كان يُعرّف نفسه بأنه صديق للتجارة.

كيف استطاع "فرانسيسكو بيزارو" تركيع إمبراطورية كاملة، الإنكا، مستعينًا بـ 168 رجلاً فقط؟ كما يُوضح "جوش كلارك" في كتابه "كيف تعمل الأشياء" (How Stuff Works)، فإن الإجابة تكمن في البارود والأحصنة والأمراض، وهي العوامل التي ألحقت ضررًا ماديًا ونفسيًا وحشيًا بسكان إمبراطورية الإنكا. ساعدت هذه العوامل ذاتها أيضًا المستكشفين والغزاة (الكونكيستادور) في التغلب على السكان المحليين في الأمريكتين.

ولا شك أن البنادق والمدافع هي أسلحة مميتة، لكنها تُصدر أيضا ضجيجًا وينبعث منها وميض ساطع عند إطلاق النار منها. لم يسبق لسكان الإنكا مشاهدة مثل تلك الأسلحة من قبل، وكانوا يهربون لرؤيتها. ورغم أن "بيزارو" أحضر معه 37 حصانًا فقط، إلا أن تلك الأحصنة كانت مدرّبة للهجوم على الخصم، وهو أمر لم ير سكان الإنكا مثيلًا له في الماضي، غير أن المرض في نهاية المطاف كان له الأثر الأكبر، حاصدًا حياة ما يقارب 95 بالمائة من السكان المحليين خلال 130 سنة، وهو ما ترك جروحًا نفسية بقت لأجيال.  

الدعاية
لم ينتصر المستعمرون الأمريكيون في الثورة الأمريكية بفضل القوة العسكرية وحدها، ولكن أيضًا بالدعاية الفعّالة، فقد كانت الحملة المعلوماتية للثوار الأمريكيين ذات شقين: تصوير جنود الجيش البريطاني بأنهم وكلاء للطاغوت، مُبرزين الهوية الأمريكية التي لم تكن موجودة بعد. وعلى كل حال، إذا لم يكن المستعمرون رعايا بريطانيين، فمَن كانوا بالضبط؟ والأهم من ذلك، ما الذي كانوا يدافعون عنه؟

"مجزرة بوسطن" و"حفلة الشاي في بوسطون" و"القوانين غير المقبولة"، كل المسميات السابقة أُطلقت على أفعال الحكومة البريطانية المستبدة وردود فعل الثوار الأمريكيين عليها، إذ اتسمت ردود الامريكيين بالمبالغة والإثارة من أجل كسب تعاطف الجمهور ودعمه في نهاية المطاف.

كما استخدم المستعمرون الأمريكيون عملياتهم النفسية أيضًا ضد القوات المعارِضة.  إذ وزّعت القوات الأمريكية منشورات تقدم صورة سلبية عن الأوضاع داخل المعسكرات البريطانية مقارنة مع الأوضاع الجيدة داخل معسكرات الثوار الأمريكيين، وذلك من أجل إضعاف معنويات القوات البريطانية.

على سبيل المثال، عندما استعان التاج البريطاني بعشرات الآلاف من "مرتزقة إيسن" للمشاركة في الحرب، وضع الآباء المؤسسون خططًا عديدة لتشجيع هؤلاء المرتزقة على الفرار والانشقاق. ووفقًا لكتاب Secret and Sanctioned: Covert) Operations and the American (Presidency، تضمّنت إحدى تلك الخطط رسالة من "بنجامين فرانكلين" مكتوبة باللغة الألمانية زُعم أنها مُرسلة من أحد كُونتات مقاطعة "إيسن" الألمانية لقائد ميداني. تحث الرسالة القائد بزيادة أعداد ضحايا مرتزقة إيسن من أجل زيادة الأموال التي يدفعها البريطانيون لهذا الكُونت، وساهمت تلك التكتيكات في زيادة حالات الفرار من الجيش البريطاني.

وشهدت الحرب العالمية الأولى عددًا من التطورات في علم الحرب. أحد تلك الاختراعات التي ابتُكرت أثناء الحرب كانت عبارة عن نوع جديد من القنابل، وهي قنبلة المنشورات.

لقد توسَّع استخدام هذا التكتيك الذي تعود جذوره للعصر الاستعماري- أي استخدام منشورات يكتبها غالبًا قائد عسكري بغرض التأثير على جيش عدو أو سكان مدنيين- أثناء الحرب العالمية الأولى عبر وسائل توزيع مختلفة، وكان البريطانيون والألمان يلقون بمنشورات من الطائرات أو المناطيد، أو عبر إطلاق قنابل منشورات باستخدام مدفعية مُعدّلة. ومع بداية الحرب العالمية الثانية، استخدمت جميع الأطراف تكتيكات الحرب النفسية من أجل إضعاف القوات وإرباك العدو أو ترهيبه. استعانت كل الأطراف بتقنيات قديمة، مثل المنشورات، فضلًا عن استخدام ابتكارات ناشئة. أحد أشهر الأمثلة على العمليات النفسية في مسرح المحيط الهادئ كان استخدام الراديو، وهي تقنية كانت في مهدها أثناء الحرب العالمية الأولى لكنها توسّعت بحلول الحرب العالمية الثانية، لاستهداف الجنود الأمريكيين.

أطلق الأمريكيون اسم "وردة طوكيو" (Tokyo Rose) على المذيعات المتحدثات بالإنجليزية اللاتي يعملن كأبواق دعاية لحساب اليابانيين، وكانت المذيعات يهدفن لتشجيع البحارة الأمريكيين على الاستسلام والعودة للوطن، وكن يروين أخبار الانتصارات اليابانية وهزائم الحلفاء.
وفيما بعد أصبح البحث عن مذيعات "وردة طوكيو" قصة مثيرة في الولايات المتحدة عقب انتهاء الحرب، حيث تعقّب صحفيان في نهاية المطاف إحدى الأمريكيات من أصول يابانية - وهي إيفا توغوري - التي شاركت في تلك البرامج الدعائية اليابانية، وبالرغم من أن دورها كان محدودًا، غير أن المحاكم الأمريكية اتهمت "توغوري" بالخيانة وحكمت عليها بالسجن لمدة عشر سنوات ودفع غرامة قدرها عشرة آلاف دولار. في عام 1977، أصدر الرئيس الأمريكي "جيرالد فورد" عفوًا عن "توغوري" بعد ظهور أدلة قوّضت كثيرًا من قرار اتهامها.

الأدوية
وأوضحت الحرب الباردة المدى الذي يمكن أن تذهب إليه الدول للسيطرة على "الميدان النفسي". أفرز ذلك العصر سباق تسلح، ليس فقط في القدرات النووية، لكن أيضًا في العمليات النفسية. وتسبب جنون الارتياب في إجراء كل أنواع التجارب الغريبة لاختبار القدرات النفسية.

أحد أشهر تلك التجارب وأكثرها إثارة للجدل أثناء ذلك العصر كان مشروع (MKULtra). كان ذلك المشروع عبارة عن برنامج مموّل من وكالة الاستخبارات الأمريكية "سي آي آيه" وشاركت فيه العشرات من الجامعات ومؤسسات البحث الأمريكية، وكان هدفه التوصل لأدوية يمكن استخدامها للسيطرة على عقول البشر. تضمّنت التجارب التي أُجريت على بشر مزيجًا من التنويم المغناطيسي والحرمان من النوم واعتداءات لفظية وجنسية وإجبار الخاضعين للتجارب على تناول عقاقير الهلوسة LSD وتعريضهم حتى للتعذيب.

استفادت العمليات النفسية في الحرب الباردة كثيرًا من النجاحات التي تحققت في الحرب العالمية الثانية، كما أثرت على العمليات النفسية المعاصرة، وأنشأت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي بنية تحتية دعائية هدفها كسب حرب المعلومات، كما أنشأت الولايات المتحدة إذاعات لا تزال موجودة حتى يومنا هذا، من بينها إذاعة الحرية وراديو أوروبا الحرّة وصوت أمريكا. وفي الواقع، فإن نجاح هذه الشبكات في خدمة المصالح الأمريكية في الخارج شجع روسيا لإنشاء محطة "روسيا اليوم" عام 2005، والتي تعدّ أحد الأذرع الدعائية الرئيسية لموسكو في الغرب اليوم

المصدر: رؤية نيوز