كيفما تنقّلت بين محطّات التّلفزة، المحليّة والعربيّة، ستتفاجأ بعدد حَمَلة رتبة "محلّل سياسيّ" أو "محلّل استراتيجيّ" أو "خبير في شؤون ما: استراتيجية، عسكرية...". وإن لذت بالصّحف توخيّاً لحال أفضل، ستدهشك الأوراق السمراء بخبراء في شؤون الدول وآخرين متخصصين في شجون الجماعات الإسلاميّة... أمّا إذا لجأت إلى المواقع الإلكترونيّة كمصادر لنقل الواقع وتحليله، فواقعها لن يكون أفضل بكثير.
فالمحلّلون ينتشرون، يتكاثرون، يمتدّون على مساحات التّعبير الشّاسعة... قولًا وقلمًا وخرائط ومراجع. وقد لا يتعدّى عدد المتخصصين فعلياً أو "المحترفين" من بين كلّ هؤلاء عدد أصابع اليد. لكنّها متطلّبات السّوق الإعلاميّة الّتي تبتدع لكلّ ملفّ خبيرًا، يوجّه الرّأي العام المفترض بحسب ما يتوافق مع توجّهات مموّلي القنوات، لا سيّما تلك الّتي تحوّلت إلى منابر تعبوية.
إذًا, أصبح التّحليل السياسيّ بسيطًا جدًا. قل لي ماذا تريد أن يردد جمهورك وأنا أختار لك متكلّمًا من لائحة طويلة، أنتجتها الظروف والمتغيّرات السياسية في المنطقة. يأتي المتكلم أو من بات يعرف بالمحلّل، ببزة رسميّة ولغة ومصطلحات مركّبة، يبث آماله وتوقّعاته الغيبية كمقدمة لتحليله "العلمي". يبني عليها قصرًا من الرمال يداعب به خيال جمهوره أو يهدّد ويتوعّد بترسانة من ورق ستدكّ حصون الأعداء. ومن ثم يصل إلى استنتاجات هجينة، عقيمة، لا تمت إلى الواقع بصلة.
وأكثر من ذلك, تقوم بتضليل المشاهدين بشكل يؤدّي إلى إحباطهم بعد تيقنهم من سوء التحليل المعتمد. ورغم ذلك, لا يجرؤ أحد على القول أنّ التحليل كان خاطئا، أبدًا، الواقع هو من أخطأ في عدم مجاراته تمنيات ذاك المحلّل أو أحلام ذاك الخبير. وفي حالات أخرى, يضطر البعض إلى العودة إلى الجملة الشهيرة "هناك أوراق كثيرة لم تلعب بعد.." موحياً للجمهور بأنّه يعلم بكل ما يحاك في كواليس السياسة، وتكملتها بما لذّ وطاب من التحليلات الّتي تحاكي عواطف الجمهور لا عقولهم.
بالمبدأ، التحليل السياسي يتطلّب شروطًا ذاتية وموضوعية. بمعنى آخر، على المحلّل السياسي أن يمتلك مواصفات معينة تبدأ من الاختصاص بموضوع التحليل، مرورًا بمتابعته مجريات الواقع من زوايا مختلفة متوخيًا الواقعية في النظر إلى الأمور.
وقبل كلّ ذلك، ثمة شروط يجب أن تنطبق على موضوع التحليل نفسه وأبرزها: الجدوى والهدف من طرحه في توقيت ما، وتأثيره على تشكيل الرأي العام بشكل واقعي، بعيدًا عن العواطف والرغبات..
من هنا، بات من الصعب جدًا التعامل مع البرامج السياسية كمادة ذات قيمة، أو كمستند موثوق لبناء وجهة نظر أو إلقاء نظرة على واقع ما. فقلة قليلة من المحطات العربية والمحلية تراعي المعايير العلمية والمهنية في استضافة النماذج "المحلّلة". كذلك بات من الصعب أيضًا أن نميز بين التوقعات الفلكية للمنجمين والبصارين وبين التحليلات الّتي تعرض على الشاشات وفي الصّحف والمواقع الإلكترونية.
واليوم، بعد كلّ ما جرى ويجري، هل أصبح الجمهور على مستوى من الوعي يجعله قادرًا على التمييز بين العنتريات على الشّاشات وبين التحاليل الواقعيّة الّتي تبقيه على أرض الواقع، لكي لا يصاب بمزيد من الإحباط؟!.

المقالات الواردة في الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر عن رأي إدارة الموقع