كنا بالمخيم في بيت أهلي، قالوا إن جيش الإحتلال آتٍ، فبقينا في البيت على أساس أن الناجين من صيدا قالوا إن العائلات التي لم تقاوم العدو سلمت من مكره. كانت القنابل المضيئة فوق سماء المخيم كالشتاء، كأنه نهار فعلاً. كنت أنا وأخي بين الحين والآخر نصعد على سطح المنزل لنأخذ "برشوتات" القنابل، عندها سمعت صوت استغاثة لامرأة تقول: إلحقوني، وصوتها يغيب ثم يعود ليصدح في المكان. سألت أخي إذا سمع صوتها، فرد قائلاً لا أنت تتوهمين لا يوجد أصوات. هذه البنت لم تُغتصب. كانوا مختبئين مثلنا، قُتلت بالبلطة بعدما ذهبت لتبحث عن أخيها خارج البيت.
كنا تسع بنات صغار في السن. وكان هناك زوار من منطقة الحرش وكان معهم بنت صغيرة، كانوا قد هربوا من منطقتهم بحكم قساوة ما يحدث في شارعهم. وكان في بيتنا حوالي الخمسة شبّان، واحدٌ منهم وهو من آل خريبة قرر أن يذهب لمنزلهم ليغتسل ويعود. عندما تأخر ذهب أخي ليفتقده وأخيه زكريا، فوجداه جثة في وسط الشارع، وعليه مواد كيماوية وكان بدأ جسمه بالاتفاخ من الكيماوي الذي كانوا يستخدموه على الجثث، والهدف منه هو عدم معرفة الجثث والوجوه. عندها عاد أخي ووجه أصفر قائلاً: نعم هناك مجزرة دائرة في المخيم، علينا الرحيل. كانت المجزرة دائرة من ١٤ ايلول، وكما عرفنا بعد المجزرة أنها كانت ردة فعل الكتائب على مقتل بشير الجميل. بدأت المجزرة في ١٤ ايلول وانتهت في ١٧ الشهر. هربنا في السادس عشر بمواكبة بعض الشباب الذين كانوا يملكون بعض الرصاص، وكانوا يطلقون النار كل بضعة أمتار لفتح الطريق امامنا. كان يوم جمعة، حملنا أغراضنا وأُجبرنا على الرحيل رغم إصرارنا على البقاء، ولكن أخي أصرّ على رحيلنا، لأن معظمنا من النساء، وكان معنا قاصرات.
ذهبنا إلى منطقة "أرض جلول". كانت للقيادة العامة. كنا كثراً، لبنانيين وفلسطينيين سوياً، منا من فقد ذويه ومنا من لا يعلم ما إذا بقي له أحد. كانت الإشاعات تقول إن سعد حداد هو منفذ المجزرة. وكل يومين او ثلاثة يأتي أحدهم ويتحدث عن أن سعد حداد عاد لينفذ مجزرة أخرى، ونرى أعداداً من القادمين ليكونوا معنا داخل الساحة. كان آنذاك ما يسمى بالجيش الفئوي، كنا كلما هربنا لنختبئ او نلجأ لهم، يجبروننا على العودة على أمل أن نقتل جميعاً. مارسوا علينا حرباً نفسية. عانى الكثيرون من ارتفاعبضغط الدم، وعانى البعض من انهيارات عصبية، من المشاهد التي رأيناها، والجثث التي ما زالت على الأرض. بقينا لمدة شهرين نعاني من روائح التعفن والدم، عدا عن الوباء الذي انتشر في أرجاء المخيم بسبب الدم والمواد الكيماوية التي استخدمت.
كما دخل المجرمون الى "شارع عرسال" الذي كان يقطنه لبنانيون من الطائفة الشيعية، ومعظمهم من آل المقداد. ذبحوهم ونكلوا بجثثهم، وكلما قال أحدهم أنا لبناني، كانوا يسألونه لماذا تعيش بين الفلسطينيين؟ وقبل الإجابة يكونون قد قسموا رأسه نصفين، او فصلوا رأسه عن جسده. راح ضحايا لبنانيون أكثر من الضحايا الفلسطينية في هذه المذبحة البشعة، ودفن الكثير من اللبنانيين خلف السفارة الكويتية في حفرة كبيرة. فمن لم يجد جثة ذويه كان يعلم أنهم دفنوا في الحفر العملاقة. فلا العدو أخذ رفاتاً ولا الكتائب.
عندما وصل الكتائبيون إلى منطقة صبرا، بدأ اعتقال الشباب وكان بينهم خطيبي آنذاك. وكان زوج صديقتي بينهم الذي اختبأ تحت التخت، فاعتبروه إرهابياً وقتلوه على عتبة بيته. كان بينهم سهيل وسليم التعبانة، وجاء خبرهما بعد اعتقالهما بساعات بأنهم أُعدما. أما من لم يقتل فاحتجز عند المدينة الرياضية، لدى القوات الصهيونية، في حفرة كبيرة من آثار القصف الصهيوني. كان بعض الشباب مجبرين على الذهاب والتوقيع بشكل يومي عند نقطة الجيش الصهيوني الهمجي. وبعدها أطلق سراحهم بعدما انسحب العدو من بيروت متجهاً الى الجنوب، وبقي هناك حتى حررت المقاومة الأراضي المحتلة عام ٢٠٠٠.
بقينا ما يقارب الشهرين حتى تأكدت أمي أن سعد حداد لن يعود، فأعادتنا أنا وأختي الى المخيم. عانينا من قنابل كانوا زرعوها في الأرض قبل أن يتركوا المخيم. أنا ممن أصيب بانفجار واحدة من هذه القنابل العنقودية. في ١٧ الشهر انسحبت قوات الكتائب من المخيم وبقيت قوات العدو متمركزة عند المدينة الرياضية. أذكر المجزرة وكأنها حصلت البارحة، مشاهد القتل والذبح لم ولن ننساها، لن ننسى أننا كنا نائمين عندما دخلوا المخيم بحجة قتل رجال المقاومة الفلسطينية وهم يعلمون أن رجال فتح كانوا على المحاور في مناطق أخرى ولم يكن هناك أي مقاومة فلسطينية او كوادر داخل المخيم.
جبناء فلو كانت هناك مقاومة داخل المخيم لما دخلوا، ولكن الصهاينة أعطوهم الضوء الأخضر والكثير من الضمانات، وكان دور الصهاينة فقط حماية المخيم من الخارج، ومنع دخول الصحافة والصليب الأحمر، ولم يقتلوا ويذبحوا أحداً، من ذبح وقتل كانت الكتائب اللبنانية، شباباً مخدرين كانوا، لم يكن بينهم شخص واحد واعٍياً.
المقالات الواردة في الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر عن رأي إدارة الموقع