أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن التوقيع على وقف إطلاق النار في سوريا مع تركيا، بوصفها أهم داعم ومشغل للمسلحين حتى الآن. لكن نسأل كيف نفهم هذه المسرحيةّ؟ هل سيكون بوسع الرئيس أردوغان نقل بلاده من ارتباط كليّ بالولايات المتحدة الى تحالف جديد مع روسيا؟ ما هي الأسباب والنتائج التي يمكن أن تترتب بناء على هذا التحول الكبير؟
من الصعوبة استيعاب انقلاب موقف الرئيس أردوغان، طالما أن تركيا لا تزال عضوا في الحلف الأطلسي، المنظمة التي لم تتمكن أية دولة، في أي وقت مضى، من مغادرتها. ربما تتمكن تركيا في مرحلة أولية، من الخروج من القيادة العسكرية الموحدة، كما فعلت فرنسا، في عام 1966 عندما تعرض الرئيس شارل ديغول، في ذلك الحين، لمحاولة انقلاب، إضافة إلى العديد من محاولات الاغتيال التي قامت بها منظمة الجيش السري، وهي منظمة فرنسية كانت تمولها سي.آي.ايه.
على الرغم من أننا لا نعرف بالضبط عدد المسلحين المتواجدين في سورية والعراق، إلا أنه بإمكاننا اعتبار أن عددهم في الوقت الراهن، ليس أقل من خمسين الى مائتي ألف. لكن السؤال الاخطر الان إذا كنا نعلم أنه من المتعذر جداً وبالمطلق، إصلاح هؤلاء المرتزقة، فما عسانا نفعل بهم؟ وقف إطلاق النار، الذي تم تعمد كتابته بطريقة غامضة، ترك الباب مفتوحا أمام احتمال شن هجوم ضدهم في إدلب، حيث يحتل هذه المحافظة عدد لا يحصى من الجماعات المسلحة، دون أية روابط فيما بينها، لكنها تخضع لتنسيق من قيادة منظمة حلف شمال الأطلسي (لاند كوم) في ازمير، عبر منظمات غير حكومية "إنسانية".
على النقيض تماما من داعش، فقد فشل هؤلاء المسلحون في تنظيم أنفسهم بشكل صحيح، وظلوا يعتمدون على المساعدة التي تقدمها لهم منظمة حلف شمال الأطلسي عبر الحدود التركية، والتي يمكن إغلاقها في وقت قريب. مع ذلك، إذا افترضنا أنه من السهل السيطرة على الشاحنات التي تسير على طرق معروفة جيدا، إلا أنه من غير الممكن وقف عبور هؤلاء الرجال عبر الأراضي الزراعية المنتشرة على طول الحدود. من المحتمل في هذه الحال أن يفر الآلاف، وربما عشرات الآلاف من المسلحين، قريبا إلى تركيا لزعزعة استقرارها. الواضح أن أنقرة بدأت بالفعل بتغيير خطابها، حين اتهم الرئيس أردوغان الولايات المتحدة بمواصلة دعم المسلحين بشكل عام، وعلى وجه الخصوص، داعش ، موحيا أنه إذا كان قد فعل الشيء نفسه في الماضي، فذلك تحت تأثير سيئ من واشنطن. وتطمح أنقرة من وراء ذلك لكسب المال، من خلال تلزيم شركات الأشغال العامة لديها بإعادة إعمار مدينتي حمص وحلب.
مع ذلك، يبقى من غير الواضح كيف ستتمكن تركيا، بعد قيامها بدفع مئات الآلاف من السوريين على مغادرة ديارهم، ودعم المسلحين الذين دمروا البلاد، وقتلوا مئات الآلاف من السوريين، ونهبوا شمال سورية بالكامل، من أن تتنصل من مسؤولياتها. في حال تأكد انقلاب الموقف التركي واقعيا خلال الشهور القادمة، سيترتب على ذلك سلسلة من النتائج، بدءا من حقيقة أن الرئيس اردوغان لن يقدم نفسه بعد الآن كحليف لروسيا فحسب، بل سيعمل جاهدا للتقرب من حلفاء روسيا المنتصرين يعني المقاومة الاسلامية في لبنان ( حزب الله) والجمهورية الإسلامية في ايران، أي أبطال العالم الاسلامي الشيعي وما يعنيه ذلك من انتهاء حلم أن تكون تركيا زعيمة للعالم السني، تحارب "الزنادقة" بالمال السعودي.
هذا المشروع سقط لغير رجعة. لكن من الضروري التأكيد انّ الصراع المصطنع بين المسلمين الذي أطلقته واشنطن، لن يتوقف إذا لم تتخل المملكة العربية السعودية عنه، هي الأخرى. وهذا للاسف أمر غير متوقع في القريب من الزمن نظرا لما تقوم به السعودية اليوم من دور في عرقلة عدة ملفات وليس اخرها الملفان السوري واليمني لتجاهر بالتطبيع مع الكيان الصهيوني رأس الفتنة الاكبر في قلب الامة.
ينبغي أن نفهم أخيرا أن هذا الانقلاب المذهل في الموقف التركي ناجم عن عدة عوامل: بدءا من إلقاء القبض على ضباط أتراك في مخبأ تحت الأرض تابع لحلف شمال الأطلسي، في أحد أحياء حلب الشرقية، وانتهاء بالدور الشخصي لرجب طيب اردوغان خلال الحرب الشيشانية الأولى، حين كان على رأس حركة ( مللي غوروش ) الإسلامية، الدور الذي لم تتحدث عنه موسكو علنا، لكن أجهزة الأمن الروسية لا تزال تحتفظ بفيض من المعلومات عنه في محفوظاتها وفي اللحظة الفاصلة، فضل الرئيس فلاديمير بوتين تحويل أردوغان من عدو إلى حليف، بدلا من اسقاطه والدخول في حرب مع الدولة التركية، وربما اكثر من ذلك جعل كل من الرئيس بشار الأسد، والسيد حسن نصر الله، و الامام القائد آية الله علي خامنئي يقبلون بهذا التغيير بشروط تثبت على ارض الميدان وتكلل بنجاحات وانتصارات لحلف الممانعة لمشروع تدمير سوريا وتقسيمها. لكن يبقى السؤال الاهم الان: هل سيقبل حلفاء تركيا القدامى هذا التغيير؟ ونقصد هنا اسرائيل وامريكا. هل سيدفع اردوغان اثمانا لانقلاب مواقفه تجاه الازمة السورية ودوره المشبوه فيها؟ اسئلة برسم ما سيحصل من قريب الاحداث.
*اكاديمية متخصصة في السياسة الدولية
المقالات الواردة في الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر عن رأي إدارة الموقع